قضيت اسبوعا في مدينة نيويورك أتلمس خطي المجتمع الدولي تجاه مصر وأرصد ما يقال عنها وأستمع إلي ما يتردد فيها حيث عشت هناك أياما أحاضر وأحاور وأستشفي أيضا!
ولقد خرجت بحصيلة أري من حق المواطن المصري بل والعربي أن يكون علي بينة منها وإدراك لها لأن صورتنا عن أنفسنا ليست بالضرورة هي صورة الآخر عنا ومهما كانت فكرة غيرنا صادمة أو نظرته ظالمة، إلا أنه يتعين علينا أن نتعامل معه بمنطق يقوم علي طرح الحقيقة وتصحيح الصورة وتوجيه خطاب إعلامي معاصر يكون قادرا علي تفنيد الادعاءات والرد علي الافتراءات وتصحيح المفاهيم وترشيد الرؤي، ولعلي أسوق هنا من خلال النقاط التالية ما يستحق التأمل ويحرض علي التفكير:
أولا: إن تأثير جماعة الإخوان المسلمين خارج مصر لا يقل عنه داخلها بل قد يزيد ففي مدينة نيويورك ـ وهي أكبر مدينة أمريكية ويهودية في العالم ـ ما يزيد علي تسعين مسجدا إسلاميا وهذا أمر يسعد أي مسلم ولكن الذي حدث أن هذه المساجد قد جري اختراقها من جانب تيارات إخوانية و جماعات سلفية وصلت إلي الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين حتي أنك تجد شابا أمريكيا مسلما من أصول عربية أو غير عربية وقد لا يتحدث إلا كلمات عربية مكسورة ولكن العقيدة تجري في دمائه فقد جرت له عملية غسيل مخ منذ الطفولة جعلت فكرة الوطن ضائعة وصنعت من الإسلام قومية أكثر منه دينا، وإذا تحدثت إلي أحدهم فسوف تجد أنها عبارات واحدة وكلمات مكررة جرت بطريقة التلقين ولم تعتمد علي تفكير ولا رؤية ولا احتكام لعقل.
ثانيا: إن ما جري في الثلاثين من يونيو والثالث من يوليو والسادس والعشرين من يوليو من هذا العام قد جري تحويلها لدي قطاع كبير من الرأي العام إلي عمل انقلابي يفتقد الشعبية، فالبطولة لديهم هي اعتصامي رابعة العدوية وميدان نهضة مصر وترسانة السلاح في كرداسة أما ما عدا ذلك فهو مزيد من إنكار للحقيقة وتزييف للواقع وتغييب كامل لإرادة الشعب المصري وملايينه التي خرجت عدة مرات لتسقط نظاما أو لتعطي تفويضا أو لتعبر عن رفضها لحكم فصيل يريد أن يفرض وصايته علي الوطن وأن يجرد مصر من هويتها العصرية.
ثالثا: إنني أري أن الرواية طويلة وأنه يتعين علينا أن نبذل جهدا ضخما لوضع الرأي العام العالمي علي المستويين الرسمي والشعبي أمام الحقيقة مؤكدين أنه ليس كل الإخوان المسلمين أدعياء أو مجرمين وليس كل السلفيين حمقي أو غافلين، فالصورة يجب أن تتضح لدينا أولا بحيث ندرك أننا يجب أن نجلس جميعا علي مائدة واحدة مهما طال الصراع واشتد العداء وسالت الدماء إذ لابد أن نلتقي علي كلمة سواء فنحن جميعا مصريون سواء أكان انتماؤنا لتيار إسلامي أو ليبرالي، سواء أكنا يساريين أو قوميين أو ناصريين ولا يلغي أحدنا دور الأخر إلا ما يأتي بحكم القضاء أو يكون تنفيذا لنص القانون، فالتجريم ليس كلمة سهلة والتخوين عبارة خطيرة والتعميم مشكلة حقيقية إذ لابد من الاحتكام إلي العقل في نهاية المطاف.
رابعا: إن الوقفة العربية وخصوصا من دول الخليج تجاه مصر قد عززت كثيرا من وضعها علي الصعيدين الدولي والإقليمي ورفعت من معنويات الشعب المصري وجعلت دعاة التشدد والتعصب والتطرف حبيسي إطار معين ورسمت لهم صورة ذهنية لدي العقل الغربي إستطاعت أن تنال إلي حد كبير من الحملة الطاغية التي روجت لها عناصر الجماعة وغيرها من التيارات المعادية للقوات المسلحة المصرية والطامعة في وراثة الدور المصري وإقامة دولة دينية علي أنقاض قرني النهضة ـ التاسع عشر والعشرين ـ والمد القومي والدور الإقليمي فليست مصر هي المهمة ولكنها الجائزة الكبري لمن يريد أن يضغط بمخالبه علي الأعصاب الحساسة في المنطقة ويدس أنفه في شئون الشعوب والمجتمعات بمنطق قد لا يوافق عليه الجميع.
خامسا: إنني أظن مخلصا أن الهوة في التفكير بيننا وبين الغرب هي أن صندوق الانتخابات مختلف لدينا عما هو لديهم، فالفقر قنبلة موقوتة ولا رأي لمحتاج ولا حرية لجائع وقد يقول قائل ويحك.. وماذا عن الهند أكبر ديمقراطيات الأرض والجواب الفوري هي أن المرشحين هناك لا يغازلون الجماهير بشعارات دينية ولا يدغدغون مشاعر البسطاء بنصوص مقدسة خصوصا وأن للمصريين تاريخا طويلا مع الأديان المتجذرة علي أرضهم فإخناتون هو أول من توصل إلي وحدانية الإله كما أن المصريين القدماء قد واجهوا لغز الموت واحتمال الحياة الثانية بمزيد من التدين حتي أصبح الحاكم هو ابن الإله، فالتركيبة المصرية فريدة، فيها مزيج من التفكير المادي والملامح الروحانية وحين وصل الإسلام الحنيف إلي الكنانة استقبلت أرضها الدعوة المضيئة بل واستضافت أهل البيت في القرن الأول الهجري وقبلت بالمذهب الشيعي الفاطمي لما يقرب من قرنين حتي انصهرت صلوات الكنائس مع مزارات أولياء الله الصالحين في بوتقة واحدة هي مصر التي لا نظير لها.
.. هذه تأملات صنعتها رحلة قصيرة إلي الولايات المتحدة الأمريكية وأنا أعترف أن الموقف هناك يتحول إلي مصلحة الدولة المصرية يوما بعد يوم كما أن البنتاجون ـ وزارة الدفاع الأمريكية ـ يبدو حليفا وداعما لنظيره المصري ومدركا للقيمة الإستراتيجية لدوره لذلك فإن الحديث عن قطع المعونة الأمريكية لمصر هو استهلاك أمريكي محلي وهراء لا معني له فمصر تحارب الارهاب في سيناء بسلاح أمريكي ولا تلعب علي الحبال بين القوي المختلفة كما يتوهم البعض، فمصر أكبر وأعمق وأعقل من أن تتأرجح بين قوي دولية مختلفة فالحرب الباردة انتهي أوانها وصراع المعسكرين أضحي اقتصاديا ولم يعد سياسيا علي الإطلاق، ولعل تطورات المسألة السورية هي خير تأكيد علي التقاء القوي الكبري عند نقطة المصلحة التي ترضي إسرائيل في المنطقة وتحمي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، إن المشهد الأمريكي ليس بالسوء الذي نتصوره كما أن جماعة الإخوان المسلمين ليست بالضعف الذي نتوهمه ولكن إرادة الشعب هي قانون الحياة وركيزة النظام السياسي وقاعدة الانطلاق نحو المستقبل الأفضل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46334
تاريخ النشر: 15 أكتوبر 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/237103.aspx