أفلح شاعر ضخم الجسم رقيق الحاشية أنيق الملبس هو كامل الشناوي في أن يتحفنا بكثير من قصائده علي المستويين الوطني والعاطفي وقدم لنا في رائعته عدت يا يوم مولدي.. يا يوما بلا غدي واحدة من الأهازيج الفلسفية التي لا تنتهي قيمتها أبدا.
وها أنا أرددها اليوم في ذات المناسبة ولكنني أود أن أحيلها إلي مقارنة سريعة لما جري خلال عام واحد ما بين شهري نوفمبر في عامي2012 و2013 لكي أسجل مع القارئ الملاحظات التالية:
أولا: لقد كانت البداية الكاشفة لبوادر الاستبداد الإخواني هي ذلك الإعلان الدستوري الغريب الذي أصدره الرئيس السابق مرسي قرب نهاية عام2012 وبدا منه بوضوح أن الرجل يفتح باب المواجهة ويسقط من حسابه ردود الفعل الشعبية علي كل المستويات، فدخلت مصر تلقائيا في أجواء من التوتر والقلق وهبت علي الوطن رياح عاصفة توحي بعودة الشعار الذي ترفعه السلطة في مصر وهو أنها تفعل ما تريد وتترك للجماهير أن تقول ما تشاء!
ثانيا: لقد بدأ اللعب السياسي علي المسرح وكأنه لعب علي المكشوف فقد سقطت الأقنعة سريعا وتوارت الصورة التاريخية لفصيل يحكم كنا نتصور أنه قد نبذ العنف وطلق الإرهاب وبدأ يؤمن بالوطن والولاء للشعب ولكن اتضح لنا أننا كنا واهمين وأن من شب علي شيء شاب عليه حيث إن الجماعة ذات تكوين خاص عايشت تجارب الفاشية والنازية لذلك ظلت متمسكة بمنطق القوة والدخول في الصراعات بلا تردد مع إحساس عميق برفض الغير والتعصب ضد الآخر والانغلاق علي الذات علي نحو أدي إلي تقسيم المجتمع وأدخلنا في نفق مظلم جعل العام الأخير واحدا من أصعب الأعوام علي الكنانة عبر تاريخها الحديث كله، ولابد أن أعترف هنا بأنني أنظر إلي كل القوي السياسية من منظور واحد باعتبارنا جميعا مصريين سواء من مضي منا علي الطريق الصحيح أو من جنح في ممر جانبي أو غرد خارج السرب أو عام ضد التيار، إننا جميعا سواء كنا تيارا دينيا أوقوميا أو ليبراليا أو يساريا أو ناصريا فإننا أبناء هذه الأرض الطيبة ولابد أن نصل إلي صيغة للتوافق الفكري والتعايش المشترك مهما كانت المصاعب والتحديات.
ثالثا: إن عودة القوات المسلحة إلي المشهد السياسي ولو بشكل غير مباشر قد بثت الطمأنينة في قلوب المصريين لأن الجيش المصري يمثل عنصر أمان ومبعث ثقة يعطي دائما دفئا للقلوب، فالعلاقة بين الشعب والجيش في مصر هي علاقة ذات خصوصية تختلف عن نظيرتها في معظم دول العالم، فالدولة المصرية الحديثة قامت علي الجيش الوطني الذي أنشأه محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر وظل ذلك الجيش وفيا لأمته مرتبطا بشعبه علي مر العصور، وأنا لا أدعو ـ بالمناسبة ـ إلي عسكرة الحياة المصرية ولكنني أري للقوات المسلحة مهمة عاجلة يجب أن تستكملها حتي تعيد لمصر الحياة السياسية المدنية في ظل ديمقراطية راسخة لا تسمح لفصيل واحد بالسيطرة علي مقدرات البلاد، فمصر أعرق وأكبر وأعمق من ذلك.
رابعا: إن أحداث يونيو ويوليو2013 قد أجهضت المشروع الأمريكي الغربي تجاه العالمين العربي والإسلامي بل إنني أزعم أنها قد أسقطت مخططا بعيد المدي كان يقوم علي ضرورة تحويل الصراع الخارجي بين الغرب والإسلام إلي صراع إسلامي إسلامي في الداخل تصطدم فيه القوي المعتدلة مع الجماعات المتطرفة ويظل الغرب يرقب المشهد العثماني القديم من بعيد دون أن يحتاج إلي التدخل بقواته وأمواله ولا مانع من أن يعود المسلمون والعرب إلي العصور الوسطي وتبقي إسرائيل واحة التمدين الحضاري والتقدم العلمي علي حساب مجموعة من الأصفار تحيط بها، فالجيش العراقي قد خرج من المعادلة منذ سنوات، والجيش السوري أنهكته معارك العامين الماضيين في الداخل، أما الجيش المصري فلا بد من استدراجه لحرب استنزاف طويلة المدي واستدعاء فلول القاعدة والجماعات الإرهابية في مواجهة معه حتي تتأكد الدولة العبرية أنها سيدة المنطقة الوحيدة بالمنطق الاستعماري العنصري العدواني التوسعي، ولكن ضابطا جسورا من مصر أجهض ذلك المخطط وكشف المشروع وعندها خرجت عشرات الملايين إلي الشوارع والميادين تؤيده وتدعمه في تجمع بشري غير مسبوق في التاريخ الحديث.
خامسا: إن الدور الإقليمي لمصر سوف يستعيد عافيته لأن الصحوة المصرية قد بهرت المنطقة بل والعالم كله، فبرغم الاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات بل والمواجهات الدامية والظروف الاقتصادية الصعبة والحرب في سيناء إلا أن العالم ينظر مبهورا لبلد عريق أدخل آخر رئيسين له في قفص الاتهام أمام قضاء مصر الشامخ في مشهد يصعب أن يتكرر في زمان ومكان مختلفين، ولقد هرع الأشقاء العرب خصوصا من منطقة الخليج ـ المرتبطة تاريخيا واستراتيجيا بمصر ـ إلي الوقوف إلي جانبها ودعم مسيرتها حرصا عليها وحبا لها وإيمانا بها، وهل ننسي بيان خادم الحرمين الشريفين ودبلوماسية سعود الفيصل في لقاء باريس أو برقية رئيس الإمارات العربية التي احتوت كلمتين فقط هما( مبروك يا أم الدنيا) وقد كان ذلك بعد بيان الفريق أول بأقل من ساعتين!
.. هذه خواطر ألحت علي وأفكار عبرت ذهني أردت أن أسجلها في يوم مولدي حيث تكون المراجعة الأمينة مع النفس والنظرة الفاحصة لما يدور حولنا، فهناك لحظات في العمر تحتاج إلي نظرة موضوعية وإلي كلمة صادقة وعبارة أمينة.. رحم الله كامل الشناوي شاعرا من الزمن الجميل، وسوف تعود مصر كما كانت دائما نموذجا للوسطية الفكرية والتسامح الديني والتميز الحضاري والعمق الإنساني!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46376
تاريخ النشر: 26 نوفمبر 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/244590.aspx