لا أتحمس كثيرا لما يسمي حوار الأديان ذلك أنني أري أن الحوار يكون بين أتباع الديانات، ولا يقوم أبدا علي المقارنة بين النصوص المقدسة والجوانب الروحية للأديان المختلفة، فتلك قضايا تتصل بمفهوم الإيمان، وهو بطبيعته غير قابل للنقاش والجدل، أما الثقافات فتلك قضية أخري لأنها تتصل بسلوك الجماعات البشرية وطرائق تفكيرهم وأنماط حياتهم.
وكنت قد تلقيت دعوة منذ عدة أعوام لحضور المؤتمر الأول لحوار الأديان والثقافات في مدريد برئاسة الملكين عبد الله بن عبد العزيز خادم الحرمين وخوان كارلوس ملك أسبانيا وانعقدت جلسات ذلك المؤتمر في أحد القصور التاريخية بمدريد وقد احتشدت في ذلك الاجتماع التأسيسي وفود من كل دول العالم، تمثل أصحاب الديانات السماوية والديانات الأرضية أيضا، وبالنسبة لمصر فقد كان الأزهر الشريف حاضرا بقوة وكذلك وزارة الأوقاف إلي جانب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وباقي الطوائف المسيحية في مصر، ولقد تمخض ذلك الاجتماع الكبير عن ميلاد مركز الملك عبد الله لحوار الأديان والثقافات والذي اتخذ من العاصمة النمساوية فيينا مقرا دائما، حيث تشكلت له سكرتارية ثابتة يترأسها أمين عام سعودي الجنسية، ولقد تلقيت دعوة من ذلك المركز في نوفمبر2013 لحضور مؤتمره السنوي الكبير، فهبطت العاصمة النمساوية ـ التي عملت فيها سفيرا لبلادي في نهاية القرن الماضي لأجد رفاقا مصريين يتقدمهم وكيل الأزهر الشريف ومستشار فضيلة المفتي وعدد من قيادات الكنائس، وقد شرفتني إدارة المؤتمر بأن أكون رئيسا لجلسة المائدة المستديرة الأساسية في اليوم الأول للمؤتمر، وأن أترأس حلقة نقاشية عن الديانات والتعليم، ولي هنا عدد من الملاحظات علي ذلك التجمع الإنساني في عاصمة الموسيقي حيث تلتقي الأديان وتتحاور الثقافات وتنصهر الحضارات:
أولا: لقد برز في السنوات الأخيرة أكثر من طرح يدور حول حوار الأديان والثقافات ولعلنا نتذكر محاضرة الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي حول موضوع حوار الحضارات منذ عدة أعوام، وكيف أن الأمم المتحدة نفسها قد احتضنت بعض هذه الأفكار الجديدة سواء بشكل مباشر أو عن طريق ذراعها الثقافية اليونسكو كما أن حوارا آخر قد امتد لسنوات طويلة بين الإسلام والمسيحية عبر جسر امتد من الأزهر الشريف في القاهرة إلي مقر بابا الفاتيكان في العاصمة الإيطالية، ولقد خضع ذلك الحوار لعمليات صعود وهبوط حتي خفت تأثيره في عهد البابا السابق بنديكت السادس عشر نتيجة تطاوله بشكل غير مباشر علي الإسلام ونبيه الكريم، فقام الأزهر الشريف بتجميد ذلك الحوار لعدة سنوات، ولعل الدكتور علي السمان يعرف أكثر حول ذلك الحوار الديني وما جري له، ويهمني هنا أن أسجل أن الأزهر الشريف والكنيسة القبطية المصرية يمثلان معا صرحا يحوز علي التقدير والاحترام في الأوساط الدينية العالمية، حيث يجسدان معا جزءا كبيرا من القوي الناعمة للدولة المصرية عبر القرون.
ثانيا: إن دعوة مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات لوفود تمثل الديانات الأرضية( آسيوية وإفريقية) هو انفتاح جديد علي روح العصر ودياناته وثقافاته فلم يعد الأمر مقصورا علي الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام بل اتسع الأفق ليشمل الديانات الأرضية وفي مقدمتها البوذية والهندوسية، لذلك كان مشهدا لافتا للانتباه أن نري علي مائدة الطعام راهبا بوذيا يتحدث مع قسيس مسيحي ويشاركهما الطعام والحديث عالم أزهري، إنها روح العصر وإرادة الأمم وتعددية الحياة.
ثالثا: حفل مؤتمر فيينا لحوار الأديان والثقافات بعشرات المداخلات التي تبدو جديدة علي الأسماع ومؤثرة في العقول، فالأديان إلي جانب قيمتها الروحية هي نسق ثقافي وتعبير حضاري، خصوصا بالنسبة للديانات الآسيوية الكبري التي تبدو أقرب إلي الفلسفات الذاتية منها إلي الطقوس الروحية، ومازلت أتذكر من سنوات عملي في الهند حالة الصفاء التي تصيب الرهبان الهندوس أو البوذيين عند بلوغ مرحلة الطرح الروحي الذي يؤجج المشاعر، ويزرع الإيمان منذ ظهور الديانات البدائية في فجر التاريخ حتي وصل إخناتون المصري إلي فلسفة التوحيد ثم نزول كلمة الله العليا إلي البشر باليهودية والمسيحية ثم الإسلام الذي حمل رسالته خاتم الأنبياء.
رابعا: أن تأتي هذه المبادرة من المملكة العربية السعودية، ومن خادم الحرمين فإن فيها ردا بليغا علي كثير من الدعاوي والتخرصات التي تحاول أن تنال من الإسلام ولعل آخرها ما أقدم عليه بعض الحمقي في دولة أنجولا بالحديث عن اجتثاث الإسلام من أرضهم، وأنا أتساءل هنا أين المجتمع الدولي بكل دياناته من هذا التصرف المستفز؟ إن مجرد إنكار الهولوكوست أو التلويح من بعيد بما يمس السامية تقوم له الدنيا ولا تقعد فما بالنا بالموقف الأنجولي الذي يعتبر عدوانا صريحا علي مشاعر مليار ونصف مليار نسمة من المسلمين ومليارات من أتباع الديانات الأخري المتعاطفين معهم، لأن من ينكر دينا بذاته فهو يسيء إلي الديانات كافة، وحتي لو أنكرت السلطات الرسمية الأنجولية ما جري إلا أننا نؤكد أنه لا دخان بغير نار!
خامسا: إن دور الأزهر الشريف تحديدا يجب أن يكون موضع تقدير من العالمين العربي والإسلامي، لأنه ينشر التسامح ويبشر بالدين الصحيح ويدعو إلي الاعتدال، ويقاوم الغلو والتطرف مهما يكن مصدره، وأظن أن الأزهر والكنيسة القبطية يقفان معا في خندق واحد ضد موجات التطرف ونزعات الإلحاد ومحاولات الإساءة إلي رسالات السماء أو حتي ديانات الأرض، فتلك هي حرية العقيدة التي يجب أن ندافع عنها حتي الرمق الأخير من حياتنا، إذ إن الإيمان هو قضية نسبية يختلف من دين لآخر بل من شخص إلي شخص، ولكن تبقي القيمة الحقيقية في الانتصار للحرية والتمسك بالحق وإقرار العدل، وإذا كان الآخرون يرمون الإسلام بافتراءات عن التعصب والتشدد ورفض الآخر فإن ذلك يدعونا إلي نفض الغبار عن الوجه العظيم والصورة السمحاء للإسلام الحنيف.
هذه أفكار وخواطر ألوكها مع القارئ بعد مشاركتي في مؤتمر عن حوار الأديان والثقافات، حيث عدت منه وأنا أشد تسامحا مع الغير، وأكثر قبولا للآخر وأقوي رفضا للعنصرية البغضاء والتعصب المقيت.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46390
تاريخ النشر: 10 ديسمبر 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/247029.aspx