كنا نتحدث دائما عن اعتزازنا بالقضاء المصري وتاريخه الشامخ الذي نفاخر به ونزهو، ولكن ذلك الحديث قد اكتسب مضمونه الحقيقي في الأعوام الثلاثة الأخيرة حيث تحمل القضاء المصري أعباء جساما ينوء بحملها نظيره في أي دولة أخري.
فالقضاة يلهثون ما بين الانتخابات والاستفتاءات، وبين الكسب غير المشروع والمحاكمات، وبين دهاليز النيابة العامة والشكايات! لقد أثبت قضاة مصر أنهم من سلالة عظيمة، لا يفتقدون الوطنية الصادقة ولا يعوزهم الضمير الحي، يؤمنون برسالة القضاء التي تعلو كثيرا علي مفهوم الوظيفة فقد بذلوا في السنوات الأخيرة جهودا تكاد تعادل ما بذلوه في العقود الأخيرة كلها، لذلك فإننا نحني رءوسنا تحية وإجلالا لهم ـ سواء المؤيد منهم أو المعارض لما جري فالقضاة في النهاية هم ورثة الأنبياء وهم ضمير الأمة وقلبها النابض وحماة الحقوق والحريات والمدافعون عن هوية الشعب عندما تتهدده المخاطر أو تعبث به الأهواء، ولكن الظروف الأخيرة وحالة الانقسام الحادة في المجتمع المصري تطرح أمامنا عددا من الملاحظات حول دور القاضي في مصر المعاصرة ونوجزها فيما يلي:
أولا: إن استقلال القضاء هو واحد من أبرز مظاهر الدولة المدنية الحديثة وأكثر سمات الديمقراطية تأثيرا في حياة الشعوب، ولم يكن الجنرال شارل ديجول عملاق الدولة الفرنسية الحديثة مبالغا ـ عندما طالب به الشعب الفرنسي عام1958 لينقذ فرنسا من وحل المستنقع الذي ألقت الجمهورية الفرنسية الرابعة بنفسها فيه محاولة قهر الشعب الجزائري واستمرار سياسة الاستيطان التي فرضتها عليه ـ حين سأل شارل ديجول يومها، وهو يري أوضاع بلاده متردية للغاية، ما هو حال القضاء الفرنسي؟ فقالوا بخير، فرد قائلا إذا فرنسا مازالت بخير، فالقضاء واجهة الدولة العصرية ومرآة سلامتها لذلك يتعين دائما إبعاده عن التلوث السياسي ليظل شامخا لا يتأثر بأهواء ولا يخضع لضغوط.
ثانيا: إن تأمين القاضي ماديا ومعنويا شرط أساس في الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة حتي يظل القاضي بمنأي عن أي إغراء مرتفعا عن أي مصلحة شخصية، ومهما ينل القاضي من استحقاقات فهي لا توازي الإرهاق الذي يعانيه ولا الظروف الصعبة التي تحيط به لأن المفترض فيه أن يبتعد عن سلوك العامة وألا يغشي مجالس السفهاء، بحيث يشعر القاضي أن مستقبله ومستقبل أسرته مكفولان في ظل استقلال القضاء ونزاهته وترفعه.
ثالثا: إن ما جري في الأسابيع الأخيرة من تنحي بعض القضاة عن مواصلة النظر في عدد من القضايا المتصلة بجماعة الإخوان المسلمين نتيجة استشعار الحرج كما يقولون هو مؤشر خطير يوحي بانطباع أنهم قد خضعوا لتهديدات مستترة لا يريدون الإفصاح عنها، كما أنها تعني أيضا أن شبح اغتيال المستشار الخازندار الذي سقط أمام منزله بالمعادي برصاصات الجماعة قد عاد ليسيطر من جديد علي أجواء القضاء المصري الحر الشريف! خصوصا وأن الخوف ظاهرة بشرية وصفة إنسانية لا نستثني أحدا منها لاسيما بعد اغتيال بعض ضباط الأمن الوطني المعنيين بمتابعة قضايا الإخوان، لذلك فإنه يتعين علي الدولة المصرية أن تكفل الحراسة المشددة للقضاة المصريين المكلفين بالنظر في الاتهامات الموجهة لأفراد الجماعة في الفترة الأخيرة.
رابعا: ضرورة الكف الإعلامي عن التدخل المستمر في شئون القضاء أمر مطلوب كذلك الابتعاد عن إقحام السلطة القضائية لتصبح مادة إعلامية تتداولها الصحف والفضائيات بمبرر وغير مبرر، حتي أصبحنا نري في السنوات الأخيرة تراشقا مباشرا بين القضاة وغيرهم وهو أمر غير مقبول بمعايير القضاء السوي، كما أن ظهور القضاة في أجهزة التلفزة متحدثين أو معقبين هو أمر غير مسبوق قد ينال من استقلال القضاء وكرامة رجاله.
خامسا: إننا ندعو السادة القضاة أصحاب القامات الرفيعة الذين يجلسون علي منصة العدالة بالتوقف عن التصريحات التي تخرج عن نطاق مهمتهم المقدسة وأن يدركوا أن القضاء رسالة وليس وظيفة وأنه مسئولية أخلاقية ووطنية وإنسانية في آن واحد حتي لا تنالهم شبهات ولا تحوم حولهم أقاويل خصوصا أن تسييس القضاء هو أكثر ما يصيب العدالة في مقتل وينال من مكانتها الرفيعة.
.. هذه ملاحظات هي أقرب إلي الرسائل المخلصة من مواطن إلي سدنة العدالة وحراس القانون الذين يتحملون المسئولية الأولي في استقرار الدولة والتمكين لأعمدة وجودها في فترة شديدة الصعوبة بالغة التعقيد من المسار الوطني عبر تاريخنا الحديث، ونحن نؤكد أن هذه الرسائل تصدر عن اعتزاز شديد بالقضاء المصري وتاريخه المضيء الذي ألهم الأنظمة القضائية في المنطقة وشارك في بنائها، مدركين المصاعب التي تواجه القضاء والقضاة في دولة سوف يصل عدد سكانها إلي مائة مليون خلال سنوات، فإذا كنا نبحث عن العدالة الناجزة فإننا يجب أن نوفر للقضاة المناخ المادي والمعنوي الذي يسمح لهم بممارسة عملهم في حيدة ونزاهة واطمئنان مع تأمين سلامتهم في كل الأوقات، وقد يقول قائل إن القضاء المصري يدفع من ضريبة التراكم السلبي لنظام التعليم المصري في السنوات الأخيرة شأنه شأن غيره من مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة واضعين في الاعتبار أن تسرب بعض العناصر من ذوي الانتماءات السياسية للجهاز القضائي يكلف الدولة المصرية في النهاية ثمنا باهظا ويجعلنا ندرك أن التهاون في تحديد خصائص أي وظيفة قد تكون له آثار سلبية أما في القضاء فآثاره كارثية، إن النظام القضائي المصري قد قام علي فلسفة تاريخية تؤمن بأن العدالة عمياء تتعامل وفقا للقاعدة القانونية المجردة التي تنصرف إلي الناس سواسية ولا تنظر إلي شخوصهم أو مواقعهم كما أنها تؤمن بسيادة القانون وتقديس مفهوم الحق وإنكار الشوائب التي تلحق بالقضاء المصري العريق، وفي النهاية فإن قضاة مصر يدركون أن اهتمامنا بهم ينبع من حرصنا عليهم بل وحرصنا علي وطن ننتمي إليه ونعتز به إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46404
تاريخ النشر: 24 ديسمبر 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/249534.aspx