يؤرقنا جميعًا ذلك الكم الهائل من الأزمات المتراكمة والمشكلات المزمنة التي تحيط بنا من كل اتجاه وهو أمر يستلزم الخروج عن المألوف والتفكير بشكل مختلف نستدعي فيه أكبر قدرٍ من الخيال الإيجابي والقدرة على تصور ما هو قادم مع استشراف المستقبل من خلال دراسات دقيقة تقوم على جدولٍ زمني واضح، وسوف أتطرق ـ عبر مقالات تالية ـ إلى عددٍ من الملفات الكبرى في حياتنا أختار منها في هذا المقال اثنين وهما ملف «مياه النيل» وملف «تحديث التعليم» وسوف نمضي بحثًا عن أفكارٍ جديدة حولهما من خلال المحورين التاليين:
أولاً: إن ملف «مياه النيل» يجب أن يستأثر بأعلى درجات الاهتمام لأنه يرتبط بحياة المصريين من بدايتها إلى نهايتها، وإذا كان المؤرخ الفيلسوف قد قال (إن مصر هبة النيل) إلا أننا نضيف إلى تلك العبارة (إذا أحسنت استخدامه وحافظت عليه)، والذين يستهدفون «مصر» يدركون أن الضربة الكبرى التي يمكن توجيهها إلى هذا الوطن تكون بمحاولة خنقه من أعالي النيل، لذلك كررت الدولة العبرية منذ الإرهاصات الأولى للحركة الصهيونية أن «النيل» كما «الفرات» هما الحدان الرئيسان لدولة »إسرائيل« الكبرى، ورغم أنني لا أميل لنظرية «التفسير التآمري للتاريخ» إلا أنني أدرك أن المؤامرة هي جزء لا يتجزأ من المنعطفات الملتوية لحركة «التاريخ» الذي يتميز بالدهاء المستتر والتكرار المفاجئ، ولقد عبرت «إسرائيل» مؤخرًا في بعض التصريحات الرسمية عن استعدادها للتوسط في مشكلة «سد النهضة» بين «مصر» و«إثيوبيا»، وقد يقول قائل إن ذلك ينطبق عليه المثل العامي المصري (نعطي الفأر مفتاح الكرار)، وهذا قولٌ دقيق لأن «إسرائيل» تحاول أن تزج بنفسها في خلاف إفريقي إفريقي بين دولتين في حوض «نهر النيل» وكأنما هي شريك ثالث لهما، إن «الدولة العبرية» تسعى بخبث للضغط على «مصر» حين تكون وسيطًا بينها وبين «إثيوبيا» بل والأكثر من ذلك أنها تحلم بأن تجعل من مشكلات «نهر النيل» بعدًا مؤثرًا في الصراع العربي الإسرائيلي ذاته فتربط مشكلة أفريقية نيلية بمشكلة الشرق الأوسط، إنها مبادرة إسرائيلية تنطوي على عشرات التأويلات ومع ذلك دعونا نفكر بطريقة مختلفة ألم ندفع ثمنًا باهظًا لاتفاقية السلام بيننا وبين «إسرائيل» على المستوى المحلي والإقليمي من خلال الانتقادات الوطنية والقومية، فلماذا لا نوظف بنود هذه الاتفاقية ـ ولو لمرة واحدة ـ في خدمة المصالح العليا للأمن القومي المصري، إذ إن «اتفاقية السلام» الموقعة في 26 مارس 1979 تنص صراحةً على أن يكف الطرفان عن القيام بأعمال عدائية تجاه بعضهما، فلماذا نسمح «لإسرائيل» بأن تبارك «سد النهضة» وتدعمه تقنيًا وفنيًا وتتحدث عن «فائض الكهرباء» المولدة منه وأساليب تصديرها، وذلك على حساب حصة «مصر» من مياه النهر الخالد التي يجب أن تزيد بحكم الزيادة السكانية لا أن تقل ثمنًا للعبث عند المنابع في كيدية سياسية أكثر منها مصلحة اقتصادية، إنني أطالب بوقفة حازمة مع «إسرائيل» نلزمها فيها باحترام روح «اتفاقية السلام» قبل نصوصها واحترام حصة «مصر» من مياه «النيل» والكف عن الأساليب الملتوية وسياسة التسلل في «شرق إفريقيا» لأن قضية «النيل» بالنسبة «لمصر» هي قضية حياة أو موت، وإذا كانت «إسرائيل» تسعى من كل ذلك إلى توصيل «مياه النهر» إليها مرورًا بالأراضي المصرية والفلسطينية فلتذهب هي إلى حلفائها في دول المنبع لتحصل منهم على حصة محدودة شريطة أن تتم زيادة حصة «مصر» في أقرب وقت بالقدر الذي يكفي «الكنانة» ويكون في يدها دون غيرها أن تحدد فائض المياه الذي يمكن أن تسمح به لدول خارج حوض النهر بموافقة جميع الأطراف، قد تبدو الفكرة شيطانية وغير متوقعة، ولكنها تقترب من نهج «السادات» في حل المشكلات! ونحن لا نتصور أبدًا أن نسمح «لإسرائيل» بأن تبتلع الأرض وتستأثر «بالمياه» وتغتصب الحقوق وتعيث شرًا في البلاد وبين العباد.
ثانيًا: إن التعليم هو البوابة الوحيدة للولوج نحو العصرنة والحداثة والدخول في مجالات التميز والتفوق والإبداع، إذ لا مكان للبحث العلمي أو لتشغيل القوى الشبابية العاطلة إلا بنهوض نظام التعليم من كبوته، ونحن نعترف بأن التعليم قد تعرض لحالة من التراجع انعكست سلبًا على كافة نواحي الحياة المصرية، وقد حان الوقت لكي نهز العملية التعليمية في «مصر» وندفع بها نحو آفاقٍ جديدة في طرائق المعرفة المختلفة وأساليب الدراسة العصرية، لذلك فإنني لا أجد غضاضة في التهور باقتراحٍ يدعو إلى عودة نظام «الكتاتيب» الذي كان يضم أطفال القرى والأحياء الشعبية ويقوم بتحفيظ «القرآن الكريم» وتعليم البسطاء والفقراء ـ من مسلمين وأقباط ـ لرفع الغشاوة عن عيونهم والتمكين من اللغة العربية لديهم خصوصًا وأننا فكرنا منذ عدة سنوات في شيء يشبه ذلك وأعني «مدراس الفصل الواحد»، وإذا كانت هذه التجربة لم تحقق أهدافها كاملة إلا أنها تبقى في ضميرنا نموذجًا للمحاولة الجادة للخروج من دائرة المألوف وصولاً إلى جوهر العملية التعليمية ذاتها، فليست العبرة أبدًا بالمباني الفخمة ولا المدارس الضخمة ولكن الفيصل في الأمر كله هو ما تقدمه تلك المؤسسات التعليمية من خدمة عصرية وأسلوب حديث يجعل تعبير التعلم بديلاً لتعبير «التعليم»، وهنا يجب ألا ننسى أن تدهور العملية التعليمية في «مصر» قد أدى إلى تراجع دورها الإقليمي وهبوط المستوى العام في كافة نواحي الحياة فلقد كان «التعليم» ومعه «الثقافة» هما السلعتاين الرئيستاين التي تعود أشقاؤنا على استيرادهما من «أم الدنيا» في القرنين التاسع عشر والعشرين، إنني أقول ذلك كله والكل يعلم أن «التعليم» هو قضية أمن قومي وليست مجرد مرفقٍ من مرافق الوطن أو إحدى مؤسسات الدولة فقط إننا نريد للتعليم المصري الذي أصبح يعاني من التعددية السلبية واختلاف المنطلقات وتعدد المصادر أن يستعيد عافيته وأن يعود من جديد إلى عصرٍ كان حامل الشهادة الابتدائية فيه يفوق في كفاءته خريج الجامعة في عصرنا الحالي .. إننا أمام أزمة حقيقية في نظامنا التعليمي لا يمكن إنكارها!
.. قضيتان تتصدران الملفات التي يجب أن تكون على مكتب الرئيس القادم أيًا كان الرئيس ومهما كانت خلفيته لأنها ملفات وطن قبل أن تكون مشكلات دولة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46488
تاريخ النشر: 18 مارس 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/269657.aspx