وصلتنى رسالة رقيقة فى الحقيبة الدبلوماسية عن طريق مكتب وكيل الوزارة –حينذاك- السفير الراحل (محمد رياض) الذى أصبح وزيرًا للدولة للشئون الخارجية بعد ذلك، والرسالة موجَّهة لى من زميل الدراسة الصديق (حاتم صادق) يقول لى فيها: (إن زوجتى زميلتك «هدى عبدالناصر» سوف تصل فى ميعاد محدد إلى مطار «هيثرو» لجمع مادة علمية لدراستها العُليا).
كان ذلك فى بدايات عام 1973 –على ما أتذكَّر- وقد طلب منى صديقى وزميلى أن أتولَّى أنا وزوجتى رعاية الضيفة الغالية، خصوصًا عند وصولها إلى (لندن) التى تقضى فيها يومين فقط، ثم تتجه إلى مدينة (أكسفورد)، حيث تحتاج إلى مادة علمية من مكتبة جامعتها وكلياتها العريقة.
وفى اليوم المُحدد طلبتُ من زوجتى الاستعداد لاستقبال الضيفة التى سوف أذهب وحدى لأعود بها إلى منزلنا؛ لأن ابنتى (سلمى) كانت فى شهورها الأولى ولا تتمكن أمها من الذهاب إلى المطار فى ظل تلك الظروف.
يومها، أدركت أن الخصم القوى يكون محل احترام أكثر بكثير من صديق ضعيف التأثير محدود الإرادة
وعند باب الطائرة كنت أستقبل زميلتى، وقد عقدت العزم أنا وزوجتى عشية حضور الضيفة -التى سوف تشرفنا بالإقامة ليلتين فى منزلنا- على ألا نتحدث فى السياسة، فقد كانت هناك إرهاصات مبكرة للهجوم على (عبدالناصر) وعصره، وهو أمر لا نتَّفق معه، فقررنا ألا نتحدث فى السياسة على الإطلاق، وأن يدور تركيزنا حول ذكريات سنوات الجامعة.
وعندما تصفَّح ضابط الجوازات فى مطار (هيثرو) جواز السفر الدبلوماسى للسيدة (هدى عبدالناصر) نظر إلىَّ وقال بلهجة حازمة: (هل هى قريبة الرجل العظيم نفسه؟)، دون أن يذكر الاسم، فقلتُ له: (نعم، إنها ابنته الكبرى)، فوضع على جواز السفر خاتمًا بالإقامة المفتوحة، ووجَّهنا إلى صالة كبار الزوَّار حتى تصل حقائبها.
ويومها، أدركت أن الخصم القوى يكون محل احترام أكثر بكثير من صديق ضعيف التأثير محدود الإرادة، ثم أخذتُ السيدة (هدى) بسيارتى إلى منزلنا، حيث كانت زوجتى وابنتى الرضيعة فى انتظارنا، وقضينا مع السيدة (هدى) يومين أو أكثر قليلاً نتحدث فى كل شىء، فقد خرقنا الاتفاق الضمنى بعدم الحديث فى السياسة وتطرَّقنا إلى الحملة القوية على والدها حينذاك.
وأتذكر جيدًا أنها قالت لى إنها تريد أن تلتقى صديقتها (ماجدة السباع) التى أصبحت زوجة لسفيرنا الراحل (أحمد صدقى) الذى كان سفيرًا مرموقًا فى (باريس)، وقالت لى: (إننا يمكن أن نتعرف على عنوانها من شخصية مصرية تعيش وتدرس منذ سنوات طويلة فى «لندن»)، وكانت تعنى الأستاذ (عزيز رضوان).
وبالفعل، اتجهنا بالسيارة إلى العنوان المحدد فى (بارك استريت)، حيث التقت السيدة (هدى) صديقتها، ثم اتجهت فى اليوم التالى إلى مدينة الجامعة (أكسفورد)، حيث قضت عدة أسابيع لجمع المادة العلمية وسط ترحيب شديد من الطلاب المصريين والعرب، وكنا على تواصل هاتفى معها باعتزاز شديد وفخر دائم، فالسيدة (هدى عبدالناصر) شخصية دءوبة علميًا تعكف على الدراسة فى حماس متجدد، وقد علَّمت نفسها اللغة الفرنسية إلى جانب الإنجليزية حتى حصلت على الدكتوراه بأعلى الدرجات ومن أحسن الجامعات، وأصبحت أستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ سنوات طويلة.
ولقد أثارت لدىَّ ملابسات زيارة الدكتورة (هدى جمال عبدالناصر) وأسلوب استقبالها فى المطار بـ(لندن) مفهومًا ترسَّخ فى ذهنى يؤكد دائمًا أن الغرب لا يحب ولا يكره، ولكنه يحترم أو لا يحترم، وقد كان (عبدالناصر) خصمًا قويًا وعنيدًا، فاحترمه البريطانيون، وتعاملوا معه دائمًا باعتباره قيمة كبيرة فى التاريخ العربى، حتى وإن كانوا يكرهونه من الأعماق، والتلفزيون البريطانى مازال فى ذكرى (حرب السويس) سنويًا يقول إن الإمبراطورية التى شيَّدها الآباء العظام للاستعمار البريطانى قد دقَّ آخر مسمار فى نعشها (كولونيل) من (الشرق الأوسط) هو (جمال عبدالناصر).
ولذلك، تذكَّرت أيضًا وأنا أكتب هذه السطور كيف تقدَّم (هارولد ماكميلان) رئيس وزراء بريطانيا من الرئيس المصرى (جمال عبدالناصر) فى قاعة (الجمعية العامة للأمم المتحدة) أثناء دورتها عام 1960 مصافحًا باحترام شديد لكى يؤكد ذلك المفهوم الذى توصَّلتُ إليه والقناعة التى سيطرت على ذهنى دائمًا.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 220
تاريخ النشر: 5 أبريل 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d9%87%d8%af%d9%89-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%a7%d8%b5%d8%b1-%d9%81%d9%89-%d9%84%d9%86%d8%af%d9%86/