يعيد التاريخ نفسه بشكلٍ لا يخلو من مفارقاتٍ عجيبة وأحداثٍ غير متوقعة، فلقد كتب أستاذ الفلسفة المصرى الشهير «د.فؤاد زكريا» مقالاً منذ عدة سنوات جعل عنوانه (دهاء التاريخ) وذلك بمناسبة مرور مائتى عام على قدوم «الحملة الفرنسية» «لمصر»
وظهور بعض الكتابات التى ترى أنها كانت «حملة عسكرية» بقصد الاحتلال أكثر منها حملة ثقافية بقصد التحديث، وقد عقد «د. فؤاد زكريا» مقارنةً بين تلك «الحملة الفرنسية» وحملة «مصر الناصرية» فى «حرب اليمن» نظرًا للتشابه بينهما فى مسألة «التحديث» والانتقال إلى العصر الذى كان يجب أن تعيش فيه «مصر» فى مطلع القرن التاسع عشر و»اليمن» فى ستينيات القرن العشرين، وقد اكتشف ذلك الفيلسوف المصرى الكبير أن «حركة التاريخ» تكشف أخطاء الشعوب وتفضح ازدواج المعايير ومنهج الكيل بمكيالين على حساب الحقيقة الواحدة فى معظم الأحوال، أقول ذلك بمناسبة ما نراه حولنا من أسباب للقلق وعوامل لا تدعو إلى الارتياح، فنحن نمضى على «خارطة المستقبل» وقد قطعنا فيها شوطًا لا بأس به بإقرار دستورٍ للبلاد ونتجه جميعًا إلى «الانتخابات الرئاسية» حتى يصبح لدينا «رأس للدولة» يقود البلاد إلى الأفضل، ولكن «الغموض» مازال يكتنف طريقنا ويمكن رصد ذلك من خلال الحقائق التالية:
أولا: إن الحرب الإعلامية السائدة على المسرح السياسى المصرى وتبادل الاتهامات الخطيرة والتجريح الممنهج ضد كل من يسعى إلى موقعٍ فى الحياة العامة التى تسود البلاد وذلك لأن سنوات القهر السياسى بل وقرون السيطرة على مقدرات الناس وأفكارهم قد أدت إلى نتائج سلبية وأوجدت نوعًا من الثقة المفقودة مع غيابٍ فى الرؤية وضعف فى الخيال وقصور فى إعطاء الأمور حجمها الطبيعي.
ثانيا: إننا نراهن على المستقبل دون أن نضع أقدامنا على أرض ثابتة تسمح بوجود ضمانات حقيقية لسلامة ذلك المستقبل، إذ أن معالجتنا للمشكلات الحالية هى معالجة عادية وباهتة وأقرب إلى نموذج المعالجة فى الأوضاع الطبيعية بينما نحن فى وضعٍ استثنائى يحمل فى طياته كل الاحتمالات بل والمخاطر، ولعل موضوع «سد النهضة الإثيوبي» هو نموذج بامتياز لأسلوب التخبط الذى وقعنا فيه فى الفترة الأخيرة رغم أنه يتصل بأكثر الأمور ارتباطًا بحياتنا، وهل هناك ماهو أهم من «الماء» الذى (جعلنا منه كل شئ حي)، إننا نتعرض لاستهدافٍ كارثى ولكننا نأخذ الأمر كما لو كان قضية عادية أو مسألة عابرة ولا نعطى ذلك الملف أهميته القصوى التى تتلاءم مع مستقبل الوطن وهو أمر لا يحتمل التأويل أو التأجيل، إننا أمام خطرٍ داهم جرى تدبيره ضد «مصر» فى غطرسة وكيدية لم نر لهما نظيرًا فى تاريخ علاقتنا المعاصرة مع إفريقيا.
ثالثا: إننا نطالب بمزيدٍ من الشفافية فى حياتنا السياسية لأننا نرى أن رواسب الماضى تتسرب أحيانًا، ومخاطر الحاضر تتضاءل أحيانًا أخرى، والأجيال المقبلة هى التى سوف تدفع «الفاتورة» النهائية لذلك كله، إننا نطالب بدراسات مستفيضة وأبحاث متعمقة وبرامج واضحة للمستقبل وفقًا لمنهجٍ علمى يقوم على أسس واقعية ويعترف بأوجه القصور ويبتعد عن الأحلام الوردية وعبارات الاستهلاك المحلى والأخبار التى تخدر التفكير وتدعو إلى الاسترخاء بغير مبرر لأن ما نواجهه أقسى بكثير مما توقعناه، إن الخطر يأتينا شرقًا من «سيناء» حيث المعارك الدامية مع التكفيريين والجهاديين وكأنها «حرب استنزافٍ» طويلة المدى، وغربًا من «ليبيا» التى أصبحت مستودعًا للسلاح الذى يجرى تهريبه إلى «مصر» لإذكاء الفتنة وإشعال نيران الصراع فضلاً عن استهداف المصريين على أرضها وقتل الأقباط «بالهوية» وكأنها «جريمة إبادة للجنس البشري» تتستر وراء الدين وهو منها براء كل ذلك دون ضمانٍ من الجنوب، فالسودان متقلب فى سياسته وغير صادق النوايا تجاه «مصر» فى الظروف الحالية لأسباب كثيرة لا تخفى على أحد! خصوصًا بعد زيارة أمير قطر» لها والمنحة السخية التى تركها لحكومة «الخرطوم»، كما أن محاولات تعزيز علاقتنا «بجنوب السودان» تجرى محاولات لتخريبها بشكل أو بآخر ولا تبدو «الجارة العبرية» بعيدة عن ذلك!
رابعا: إن المحنة التى تمر بها «مصر» تحت مسمى «الثورة» التى يجب أن تكون دافعًا إلى الأمام وليست خطوة إلى الخلف لأن الإصلاح هو النتيجة الطبيعية لثورات الشعوب لا الاستغراق فى الاعتصامات والاحتجاجات والمظاهرات دون نهاية، إن دهاء الماضى يعلمنا وضوح المستقبل وشفافية الخطوات التى نتخذها نحوه، فثورة بغير إصلاح هى حدثٌ عنيف يسحب من رصيد الأمة ولا يؤثر إيجابًا فى مستقبلها، إننا يجب أن ندرك جميعًا أن المستقبل شراكة للجميع وأن الشعب المنقسم على نفسه لا يشيد دعائم الغد بنفس القوة التى يشيدها به مجتمع متماسك متجانس فيه القبول المتبادل من كل طرف تجاه الآخر، إننى «إصلاحي» النزعة ولكنى لست ضد مفهوم «الثورة» فى الوقت ذاته، فالثورة هى فوران المشاعر النابعة من القلب أما الإصلاح فهو برنامج العمل الصادر من العقل الذى يعلى قيمة التفكير وهو الطريق الأوحد للبناء على أرض صلبة ودعائم ثابتة.
خامسا: إن التعليم هو بوابة المستقبل، والشباب هو رصيد الأمة لذلك جرى استهدافهما بشكل ملموس فى الفترة الأخيرة، ولعل ما يجرى فى بعض الجامعات المصرية يوميًا هو دليل على أن الذين يريدون أن يضربوا «مصر» فى مقتل يقومون بذلك مستغلين «دهاء الماضي» من أجل تشويه الحاضر وتحطيم المستقبل، إنهم يضربون عصفورين بحجرٍ واحد فهم يعطلون العملية التعليمية أولاً ويجرفون الشباب نحو طريقٍ لا نهاية له ثانيًا، وبذلك يخسر الوطن المصرى مرتين وتتراكم مشكلاته وتتعقد ظروفه ويكون الرابح الوحيد هم أعداءه والخاسر الحقيقى هم أجياله المقبلة! وكلما طالعت فى الصحف أو مصادر الإعلام الأخرى ما يجرى فى الجامعات المصرية شعرت أن المخطط الخبيث يمضى فى طريقه دون مراعاةٍ للمصالح العليا للبلاد أو الحقوق التاريخية التى اكتسبتها «مصر» من ميراثٍ حضارى وتراكم ثقافى وتاريخ لا نظير له.
.. هذا طواف عاجل بما يدفعنا إليه «دهاء الماضي» حتى نصل إلى «غموض المستقبل» وتلك هى قضية القضايا لأنها مسألة تتعلق بالمنهج الفكرى قبل أن ترتبط بالمستقبل السياسي!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46516
تاريخ النشر: 15 أبريل 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/277655.aspx