قضيت فى السلك الدبلوماسى المصرى قرابة خمسة وثلاثين عامًا قبل أن يتم تعيينى فى البرلمان، وأشهد أن الدبلوماسية المصرية واحدة من أعرق المؤسسات الدبلوماسية فى العالم بشهادة غيرنا ممن يرون أن السلك الدبلوماسى المصرى هو التالى مباشرة للسلك الدبلوماسى الهندى من حيث الانتشار الجغرافى والخبرة التاريخية والتمرس فى حل القضايا، أقول ذلك وأنا أتابع الافتراءات التى تحاول النيل من ذلك الجهاز العريق الذى يمتد عمره لما يقرب من قرنين من الزمان وإن كان التدشين الرسمى له قد بدأ عام 1923 بعد عامٍ من تصريح 28 فبراير 1922 الذى حدد ملامح استقلال الدولة المصرية ولو شكليًا، ولعل ما تعرّض له وزير الخارجية الحالى «نبيل فهمي» فى زيارته الأخيرة «للولايات المتحدة الأمريكية» هو دليل على الرغبة فى تحميل الدبلوماسية المصرية كل خطايا العصر وجميع الأخطاء السياسية دون التعرف على الجهد الضخم الذى يبذله ذلك الجهاز الوطنى فى تشكيل صورة «مصر» فى الخارج وتحديد طبيعة علاقاتها على المستويين الدولى والإقليمي، فالدبلوماسية هى الذراع الثانية لتنفيذ الأهداف العليا ورعاية مصالح الوطن إلى جانب الذراع الأولى وهى «القوات المسلحة»، أقول ذلك بمناسبة الحملة الظالمة التى استهدفت وزير خارجية مصر السفير «نبيل فهمي» وهو المعروف بكفاءته العالية وخلقه الرفيع، حيث تصيَّد له البعض عبارة قالها فى «واشنطن» فى محاولةٍ لتحسين العلاقات وترطيب الأجواء بيننا وبين «الولايات المتحدة الأمريكية» خصوصًا وأن زيارته تلك كانت موفقة وحققت نجاحًا ملحوظًا بشهادة جميع الأطراف، وقد تعرض معظم وزراء خارجية «مصر» لانتقاداتٍ غير عادلة فى العقود الأخيرة بدءًا من «محمود فوزي» أحد الآباء المؤسسين للدبلوماسية المصرية الحديثة وصولاً إلى الوزير الحالي، فالبعض يرى أن «محمود رياض» كان متحفظًا ومعزولاً عن واقع المؤسسة الدبلوماسية، بينما «مراد غالب» كان أحادى التوجه بحكم خدمته الطويلة فى «موسكو»، أما «محمد حسن الزيات» فهو رجلٌ يغلب عليه الجانب الثقافى الذى يطغى على الحرفية الدبلوماسية، أما «إسماعيل فهمي» الذى ترأس اللجنة الأولى «السياسية» فى الجمعية العامة «للأمم المتحدة» فهو نموذج للصلابة والتمسك بالرأي، كما أن الدكتور «عصمت عبد المجيد» هو امتداد للدبلوماسية الهادئة التى ورثها عن عمله مع الدكتور «محمود فوزي»، أما «عمرو موسي» صقر الدبلوماسية فهو الذى أدارها من الشارع المصرى وأكسبها شعبيةً وصلت إلى أغانى «شعبان عبد الرحيم»، بينما كان الراحل «أحمد ماهر» نموذجًا للدبلوماسى متعدد المواهب مختلف الرؤية، ثم جاء «أحمد أبو الغيط» ليعبر عن الشخصية المصرية واقفًا تحت العلم الوطنى رغم صعوبة الظرف التاريخي، فإذا وصلنا إلى الوزير الحالى «نبيل فهمي» فإننا نجده واحدًا من أكثر الدبلوماسيين خبرةً وحكمةً وترفعًا عن الصغائر، لذلك فإننى أورد هنا الملاحظات التالية:
أولاً: إن عراقة الدبلوماسية المصرية تجعل منها مؤسسة وطنية متماسكة لا يهبط مستواها ولا تتأرجح قيمتها مهما اختلفت أنظمة الحكم وأشكال السلطة، كما أن الدبلوماسية المصرية مدرسة متميزة بين دول الشرق الأوسط وإفريقيا ويجب ألا ننسى أن بعثاتنا تغطى أنحاء العالم تقريبًا، والذين يتحدثون عن ضرورة تقليص عدد تلك البعثات توفيرًا للنفقات لا يدركون أن «وزارة الخارجية» وزارة «إيرادية» فضلاً عن أن مردودها السياسى هو أمر حيوى بالنسبة للدولة وآفاق مستقبلها إذ لنا فى كل دولة إفريقية وعربية بعثة وهذا أمر مفروغ منه كذلك الشأن بالنسبة للدول الأوروبية والآسيوية وأمريكا الشمالية فذلك ميراث منذ العهد الملكي، أما دول أمريكا اللاتينية فلقد ورثنا بعض بعثاتها من عهد الوحدة مع سوريا واندماج السلكين الدبلوماسى والقنصلى فى الإقليمين تحت راية «الجمهورية العربية المتحدة»، وبهذه المناسبة فإن «مصر» تملك ثروة بمليارات الدولارات لمبانى بعثاتها فى الخارج المملوكة للحكومة المصرية والتى تمثل رصيدًا ضخمًا للدولة بفضل هيئة تمويل المبانى التى أنشأتها الخارجية المصرية منذ عدة عقود.
ثانيًا: إن الجهد الدبلوماسى مكمل للجهد العسكرى وقد يعفى الدولة من تبعة خوض الحروب أو تواصل المعارك، فالحل الدبلوماسى هو أكثر الحلول تحضرًا وأقربها إلى المزاج السلمى للشعب المصرى ولكن ذلك لا يعنى التفريط فى كرامته أو التساهل مع من يعبث بمكانته، لذلك تميزت الدبلوماسية المصرية.
ثالثًا: إن اختيار الدبلوماسى المصرى يخضع لقواعد وإجراءات ليست سهلة على الإطلاق، فلقد شهدت شخصيًا فى لجان الامتحانات الشفهية أن بعض الشباب والشابات يتقدمون للخارجية خمس مراتٍ متتالية ولكنهم لا يتمكنون عبر السنين من اجتياز الامتحان التحريرى الصعب والاختبار الشفهى الذى لا يخضع للهوى ولا يفرق بين المصريين والمصريات إلا بعلمهم وخبرتهم وخلقهم، وبهذه المناسبة أيضًا فالخارجية المصرية قبلت الفتيات المحجبات فى سنوات حكم الرئيس «مبارك» دون إقصاء أو ترصد، ولذلك أذهلنى وأزعجنى إصرار الرئيس السابق «مرسي» على استبعادى شخصيًا من المشاركة فى الاختبارات الشفهية فى سنة حكم الإخوان رغم أننى أجنح إلى الموضوعية ولا يحكمنى هوى سياسى أو غرض شخصي، ولكن ماذا تقول لمن كان فى قلبه مرضا.
رابعًا: إن معهد الدراسات الدبلوماسية الذى تشرفت برئاسته ـ 1993/1995ـ هو مدرسة عصرية لفتح الآفاق أمام الدبلوماسى المصرى ليطلع على الشئون الداخلية والخارجية والقضايا الفكرية المعاصرة من أجل إعداد الدبلوماسى الحديث الذى يستطيع إلقاء محاضرةٍ أو المشاركة فى حديث تليفزيوني، فالدبلوماسية قد تطورت ولم تعد هى فقط المراسم المعروفة والبرقيات التقليدية والعبارات الصماء، لقد أصبحت علمًا وفنًا لا يمكن الإقلال من قيمته.
خامسًا: إننى أدعو إلى تطعيم أجهزة الدولة المصرية بالخبرات الدبلوماسية لأننا نفقد كل عام عشرات من تلك الخبرات المتراكمة بالإحالة إلى التقاعد عند سن «الستين» وهى سن عطاءٍ بغير جدال.
.. إننى لا أدافع عن بيتى الأول وهو (وزارة الخارجية) ولا عن جهازها الدبلوماسى ولكننى أزعم أن ذلك الجهاز المتميز مفترى عليه دائمًا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46544
تاريخ النشر: 13 مايو 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/287815.aspx