مازلت حتى الآن أفكر على امتداد السنوات العشر الأخيرة بل ربما قبل ذلك أى منذ «11 سبتمبر 2001» في المفهوم الحقيقى للإرهاب المعاصر ومدى قدرته وقوة تأثيره لأننا لم نكن نسمع قبل ذلك كثيرا عن تنظيم يسمى «القاعدة»
ولعلي أشعر أحيانا أن الأمر يتمثل فى كونه «ظاهرة» أكثر منه «تنظيما»، فكل التيارات المنضوية تحت رايات الإسلام السياسى الذى تطرفت بعض أجنحته وأصبحت جماعات إرهابية تعمل بالتوازي فى مناطق مختلفة وتربطها شبكة «لوجيستية» تحتاج إلى تمويل كبير مازلنا نتساءل دائماً عن مصادرها، ولقد بدأنا منذ عام أو أكثر قليلاً نسمع عن تنظيم فرعى من «القاعدة» يسمى «داعش» (دولة «العراق» و»الشام»)، أخذ يعبث بعض الوقت على الساحة السورية ثم نقل نشاطه بشكل مكثف إلى المسرح السياسى العراقى حتى سقطت فى يده مدينة كبيرة فى حجم «الموصل» وواصل الزحف نحو «بغداد»، وبدأ الكل يتساءل من هؤلاء؟ وكانت الإجابة الجاهزة هى أن «داعش» جيل جديد من تنظيم «القاعدة» انقلب على التنظيم الأم بل وقام بتكفيره، بينما يرى آخرون أن عدد أعضاء هذ التنظيم الجديد وكوادره المسلحه مبالغ فى أرقامه إذ أن الذى يكتسح المناطق من الشمال الى الجنوب هم شباب العشائر السنية التى ضجت من التعصب الشيعى واستبداد حكم «نوري المالكي» وتفرده، حتى أن عناصر شيعية قد خرجت عليه مثلما هو الأمر بالنسبة لرمزين كبيرين في الجانب الشيعى وأعني هنا تحديدا «مقتدى الصدر» «وإياد علاوي»، «فالعراق» الذى يتمزق منذ عدة عقود يواجه الآن مرحلة خطيرة غير مسبوقة إذ يحاول تنظيم إرهابى إسقاط الدولة العراقية التى أسهم الأمريكيون فى تقويضها منذ أكثر من عقد كامل حين قاموا بحل «الجيش العراقى» «وجهاز الشرطة» «وهيئة الاستخبارات» تحت شعار «اجتثاث البعث»، وهاهو «العراق» يدفع الثمن، ولعلنا نتذكر نحن المصريين أن الله قد أكرمنا بجيش قوى ومهنى كما قال وزير الدفاع الأمريكى منذ عامين على قناة «الجزيرة»، فالجيش المصرى أقدم جيوش المنطقة وأعرقها وهو الذى حمى الجبهه الداخلية المصرية وحافظ على أعمدة الدولة، ولنا فيما يجرى فى «العراق» عبرة يا أولي الألباب!
أولاً : إن المفهوم الدولى للإرهاب يمثل قضية خلافية جرى ربطها ببعض الديانات ظلما، ولا يخفى على أحد أن الديانات السماوية والحضارات الإنسانية والثقافات المختلفة ترفض كلها العنف وتسعى إلى حياة مستقرة أصولها المساواة بين البشر واستقرار الشعوب ونهضة الأمم، ولكن تعريف «الإرهاب» خضع فى السنوات الأخيرة لمعايير مزدوجة وجرى خلطه بالكفاح الوطنى المسلح، فالغرب يكيل بمكيالين، يمارس الإرهاب أحياناً ضد الشعوب ويتهم ذات الشعوب بأنها مصدر الإرهاب وراعيته، من هنا فإن سياسة ازدواج المعايير لم تساعد على مكافحة الإرهاب ولكنها زادت منه وأشعلت معاركه فى معظم العالمين العربى والإسلامى ، ولقد فشلت المؤتمرات الدولية والاجتماعات القانونية فى تقديم تعريف واضح للإرهاب وظل الأمر خاضعا للأهواء السياسية والمصالح الوطنية دون اتفاق شامل يحدد مفهوم الإرهاب حتى تسهل مقاومته، ونود أن نشير هنا إلى أن الإرهاب هو نتيجة طبيعية للإحساس بالظلم مع تفاوت القوى بين الأطراف.
ثانياً : إن خصوصية الوضع العراقى جعلت من بلد الرافدين مستودعا «للحضارة العربية الإسلامية» خلال أزهى عصورها فى بلد لديه وفرة من المياه والنفط والأرض الخصبة، لذلك تكالب عليه الطامعون وسعت إليه القوى الكبرى من أجل السيطرة والاستحواذ، فدمر الأمريكيون جيش «العراق» وسلطتها وأجهزتها الأمنية بعد عملية تجريف سياسية وثقافية، وجرى نهب المتاحف والسطو على حضارة «بابل»، وشهد «العراق» حجما من الدماء لا نظير له فى العقود الأخيرة حتى جرى تصدير الانقسام الطائفى لذلك البلد المعروف أبناؤه بشدة المراس وقوة الشكيمة، فجامل الغزاة الأمريكيون أبناء الشيعة من العراقيين عام 2003 مثلما جامل البريطانيون أهل السنة فى عام 1920، ولسوف نرى أن ضغوطاً هائلة قد مورست على المسيحيين فى «العراق» - مثلما جرى فى بعض دول المشرق العربى - فهجرت نسبة كبيرة منهم البلاد ولم يتمكن العراقيون من إيجاد صيغة للتعايش المشترك حتى جاءت لهم حركة « داعش» بعد قيام ميليشيات «الصحوة» لكى يتضافر العنف وتكتمل الحلقة الشريرة التى امتدت من الأراضى السورية إلى الأراضى العراقية.
ثالثاً : لقد انتقدنا في أثناء حكم الرئيس الأسبق «مبارك» تراجع الدور الإقليمى «لمصر» لأن بعض المصريين ظنوا أن ذلك الدور هو نوع من الترف الذى لا مبرر له وأن الانشغال بالشأن الداخلى والانكفاء على مشكلات «مصر» المعقدة هو أفضل بكثير من التورط فى سياسات إقليمية أو اشتباكات قومية، وغابت «مصر» عن كثير من المناسبات فى «الشرق الأوسط» وتركت «لإيران» «وتركيا» بل «وإسرائيل» حرية التحرك بل والعربدة فى المنطقة استثمارا لغياب الدور المصرى، وقد آن الأوان لأن نعيد النظر فى ذلك كله فنحن طرف فى كل أحداث إقليم «الشرق الاوسط» سواء فى «غرب آسيا» أو «شمال إفريقيا»، ولا يمكن أن نتخلى طواعية عن دورنا إذ يجب أن نكون أصحاب موقف ودعاة رأى فى كل ماهو مطروح على الساحة بدءا من «الملف النووى الإيراني» مروراً بالأزمة السورية وصولا إلى الوضع فى «لبنان» مع اهتمام خاص بمنطقتى «الخليج العربى» «ودول حوض النيل»، فلقد جاء الوقت الذى يجب أن تكون فيه «القاهرة» عاصمة «الشرق الأوسط» باعتبار أن «مصر» هى الدولة المركزية المحورية فى العالمين «العربى والإسلامى» وفى «القارة الإفريقية» وأيضا بين «دول البحر المتوسط» ، إننا يجب أن ندرك أن الموقف المصرى يجب أن يكون دائما مسموعا ومرئيا، ومازلت أتذكر في أثناء عملى فى «مؤسسة الرئاسة» أن سفير «الهند» فى «القاهرة» اتصل بى يستطلع الموقف المصرى غداة غزو «العراق» «للكويت»، وقال لي نصاً إننا سوف نلتزم بالموقف المصرى تقديراً لمكانة بلدكم .
هذه ملاحظات تشير في النهاية إلى أن تنظيم « «داعش» وغيره من الموجات القادمة من الإرهاب تدرك دائماً أن «مصر» هى القلعة الحصينة وأنها دولة عصية على الانكسار إذا جاز لنا أن نستعير تعبير الرئيس المصرى الانتقالى «عدلى منصور» ! .. إن «مصر» تستعيد حيويتها وتبحث عن دورها وتؤكد مكانتها إقليميا ودوليا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46586
تاريخ النشر: 24 يونيو 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/299120.aspx