(إنه وعدٌ ممن لا يملك لمن لا يستحق) عبارة بعث بها الرئيس المصرى الراحل «جمال عبد الناصر» إلى الرئيس الأمريكى الراحل «جون كيندي» ضمن رسائل متبادلة حول «القضية الفلسطينية» و»الصراع العربى الإسرائيلي» والسياسة الأمريكية فى «الشرق الأوسط» فى مطلع ستينيات القرن العشرين، وكان «عبد الناصر» يشير بهذه العبارة إلى وعد وزير خارجية بريطانيا «بلفور» فى الثانى من نوفمبر عام 1917 لليهود مؤكدًا لهم دعم «لندن» بتحقيق أملهم فى إقامة وطن قومى لهم فى «فلسطين»، وما بين وعد «بلفور» عام 1917 وقرار «مجلس العموم» البريطانى بنية الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة عام 2014، بين هذين التاريخين مسيرة قرنٍ كامل تقريبًا تغيرت فيها نظم بل واختفت دول كما انتهى العالم من حربين عالميتين، وهنا تبقى لنا بعض الملاحظات:
أولاً: إذا نظرنا إلى الخريطة السياسية فى العالم المعاصر والمشكلات المعقدة فى العلاقات الدولية فسوف نجد أن السياسة الخارجية «البريطانية» تستأثر بنصيب الأسد من الوقوف وراء معظمها، إذ ان القضايا المزمنة والمشكلات المعقدة هى «صناعة بريطانية» بدءًا من «كشمير» فى جنوب آسيا وصولاً إلى «فلسطين» فى غرب آسيا الشرق أوسطي، فالسياسية الاستعمارية البريطانية هى صاحبة الشعار الشهير (فرِّق تسد) وهى التى دقت أيضًا إسفين الحساسية المزمنة بين «مصر» وبعض أشقائها وجيرانها فى القارة الإفريقية وقد أعنى «السودان» بوجه خاص، وكأنما كان يعز على «بريطانيا» أن ترحل من منطقة معينة وتتركها لأهلها فى «سلام،» فكانت تخلف وراءها «مسمار جحا» حتى لا تنساها الشعوب ولا تغفر لها الأمم!
ثانيًا: لقد سعى الآباء الأوائل للحركة الصهيونية إلى استغلال الظروف الدولية وتطور العلاقات الإقليمية لتحقيق أهدافهم فى إقامة كيانٍ صهيونى ووطن قومى على أرض «فلسطين» وربما فى غيرها، إذ يتردد فى أدبيات التراث السياسى أنهم فكروا فى «شبه جزيرة سيناء، » بل وربما فكروا فى دولة «أوغندا» أيضًا، ولكن المطلب الأساس كان يعتمد على استخدام حجج تاريخية واهية وبراهين دينية كاذبة، وقد كثف الصهاينة الأوائل جهودهم لدى «محمد علي» مؤسس «مصر الحديثة»، ثم فى بلاط «نابليون» الأول والثالث وصولاً إلى الخليفة العثمانى «عبد الحميد» والذى ظهرت مؤخرًا براهين جديدة تثبت أنه لم يرفض بشكل قاطع توطين «اليهود» فى «فلسطين»، بل حاول الإمساك بالعصا من المنتصف ـ شأن الدبلوماسية التركية حتى الآن ـ إلى أن سقط المشروع الصهيونى وحده ليستعيد قوة دفعه بعد ذلك اعتمادًا على قوى غربية جديدة فى مقدمتها «بريطانيا» أيضًا ثم «فرنسا» وصولاً إلى الدعم الأمريكى المطلق لدولة «إسرائيل».
ثالثاً: تعتبر «بريطانيا» هى الراعية الأساسية والحاضنة الأولى لدولة «إسرائيل» فهى التى فرضت الانتداب على «فلسطين» وهى التى أنهته وهى «عرابة» قرار التقسيم عام 1948 كما أن الدبلوماسية البريطانية، هى التى صاغت قرار مجلس الأمن (242) ووقفت وراء غموض النص حول «الأراضى المحتلة» أو «أراضٍ محتلة» لذلك فإن دورها فى خدمة «إسرائيل» تاريخيًا لا يحتاج إلى مزيدٍ من التوضيح، وقد تلقفت «فرنسا» دورها فى خدمة «الدولة العبرية» بحماسٍ شديد كرد فعل لسياسة «عبد الناصر» التحررية ومساندته للثورة الجزائرية طلبًا للاستقلال لذلك شاركت «فرنسا» فى العدوان الثلاثى على «مصر» عام 1956، وقدمت المعونة الفنية لمفاعل «ديمونة» النووى الإسرائيلى قبل ذلك عندما كان «شيمون بيريز» هو عرَّاب تلك العلاقة التى قام عليها برنامج «إسرائيل» النووى وبناء ترساناتها من أسلحة التدمير الشامل، حتى جاء الدعم الأكبر والأكثر استمرارًا وقوة وأعنى به دعم «الولايات المتحدة الأمريكية» «لإسرائيل وكأنها الولاية الحادية والخمسين لديها، وقد ساندت «واشنطن» «إسرائيل» بلا تردد وبلا حدود فى عامى 1967 و1973 وبينهما بتعويضات خسائر «إسرائيل» فى حرب الاستنزاف ومحاولة حمايتها بمبادرة «روجرز» ثم تسخير «حق الفيتو» الأمريكى فى «مجلس الأمن» لإبعاد أى إدانة عن «إسرائيل» وتدليلها خارج إطار الشرعية الدولية.
رابعًا: إن الموقف البريطانى الجديد المرتبط بقرار «مجلس العموم» تمهيدًا للاعتراف بدولة «فلسطين» المستقلة إنما هو نتاج لتطوراتٍ كبيرة طرأت على القضية الفلسطينية والممارسات الإسرائيلية العدوانية ضد شعب «غزة» فى السنوات الأخيرة، وهو ما نجم عنه تعاطف دولى كبير على المستوى الإنسانى فى مواجهة جرائم «إسرائيل»، واستخدامها المفرط للعنف ضد الشعب الفلسطينى باعتراف الدوائر الغربية ذاتها، إن «لندن» تحاول الآن أن تغسل يديها تكفيرًا عن سلسلةٍ متصلة من الدعم المستمر للدولة «العبرية» وقد جاء الوقت الذى يجب أن تخضع فيه لقوة الرأى العام العالمى الذى يتنامى يومًا بعد يوم ضد «إسرائيل» وسياساتها الخرقاء.
خامسًا: إن التطورات الجديدة التى طرأت على القضية الفلسطينية وحجم الدعم الدولى لها مرتبط على الجانب الآخر بتطورات أخرى فى «الشرق الأوسط» نذكر منها «ثورات الربيع العربي» ومحاولات المصالحة الفلسطينية ومخاطر إرهاب «داعش» وأخواتها فى الفترة الأخيرة، لذلك لا يبدو وهمًا أن نتصوّر أن القضية الفلسطينية سوف تدخل منعطفًا مهمًا فى المستقبل القريب خصوصًا بعد مؤتمر «إعمار غزة» الذى شهدته «القاهرة» أخيرا وحظى بإقبالٍ دولى لم يكن متوقعًا.
إن التغييرات العالمية والأحداث الإقليمية تبدو مؤشراتٍ كاشفة لما وصلت إليه المواجهة بين «إسرائيل» والعرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا، وذلك أمر يدعونا إلى التفكير فى مستقبل الدور الإقليمى لمصر وقدرتها فى التأثير على مجريات الأحداث مؤمنين بأن الدور الإقليمى لمصر هو جزء من مكانتها الدولية وقيمتها فى العالمين العربى والإسلامي، كما أن قدرتها على التأثير فى المجتمع الدولى تنبع أيضًا من سياستها الإقليمية قبل غيرها، وإذا كانت الدول الكبرى تقوم حاليًا بمراجعة سياساتها فى المنطقة فإن علينا فى الجانب الآخر أن نراجع دورنا وفقًا للمستجدات التى طرأت، والأحداث التى جرت، والمواقف التى اتخذت.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46712
تاريخ النشر: 28 أكتوبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/334605.aspx