مازالت التفرقة بين مفهوم الثورة ومضمون الإصلاح غير واضحة لدى الأغلب الأعم من المعنيين بالحياة السياسية والشأن العام، ولقد طرح الموضوع نفسه على شخصيًا منذ سنوات، وعندها أصدرت كتابى «من نهج الثورة إلى فكر الإصلاح» لأعالج فيه بوضوح الفروق الموضوعية بين الظاهرتين وخلصت بنتيجة مؤداها أن «الثورة» يجب أن تؤدى إلى «الإصلاح» وأن تهدف إليه وإلا أصبحت مجرد تغيير فى جهاز السلطة القائمة أو انقلاب على رموز الحكم وإنهاء سيطرة جماعة على مقدرات الشعب، فإذا كانت «الثورة» هى المظهر فإن «الإصلاح» يجب أن يكون هو الجوهر، ولعل مشكلتنا الحقيقية تكمن فى أننا نستهلك الوقت فى تجميل المظهر دون أن نهتم بالمخبر أى أننا نستغرق فى الوسيلة دون أن نحقق الغاية، ولنا فى هذا السياق بعض الملاحظات أهمها:
أولاً: إن الثورة مثل العلاج الجراحى الذى يقوم على نظرية »البتر« والتخلص من مصدر الألم، أما الإصلاح فهو »علاج على البارد« دون تدخل جراحى اعتمادًا على »عقاقير« إصلاحية تقاوم الداء بصورة مضمونة وإن كانت على مسافات زمنية أوسع، وليس ثمة ما يمنع اللجوء إلى الأسلوبين معًا أى «الثورة» و«الإصلاح» إذ تتكفل الأولى بإنهاء الأوضاع القديمة وإسقاط النظم البالية، بينما يركز الثانى على بناء المستقبل وتشييد معالمه مع التخلص من آثار الماضى وتلافى خطاياه.
ثانيًا: إننى أرى أن الثورة هى تلك الروح البريئة التى تتقمص جسد الأمة لتدفعها نحو الخلاص، بينما يكون «الإصلاح» بمثابة «العقل» الذى يفكِّر ويخطط وينفذ وهو أيضًا الذى يصنع «الوعيى» الذى يتيح لأصحابه أن يروا الصورة من خارجها وأن يدركوا ما تحقق على أرض الواقع من خلال الإنجازات الملموسة، ومن هذا المنطلق فإن العلاقة الوثيقة بين الروح والجسد هى التى تشكل ما يمكن أن نسميه «وجدان الأمة» فإذا كانت الأحداث توحى بصدام أو مواجهة بين القوى الأصلية والجماعات الوافدة فإن الإصلاح كفيلٌ باستعادة الانسجام الاجتماعى وانصهار طبقات الأمة وفئاتها المختلفة نتيجة الإحساس المشترك بمعاناة الماضى وتطلعات المستقبل.
ثالثًا: إن جزءًا كبيرًا من المخاوف التى تنتاب الإصلاحيين تجاه الفعل الثورى إنما تصدر من الإحساس بحجم العواطف المكبوتة والمشاعر المضغوطة التى قد يؤدى انطلاقها فجأة إلى تلك الهزة العنيفة التى تكاد تصل إلى درجة «الزلزال»، ولعلنا نتذكر عظمة الشباب المصرى الثائر فى الثمانية عشر يومًا الأولى فى ثورة 25 يناير وكيف تحدث العالم كله باحترامٍ شديد عن «الشعب المصري» وحضارته ومكانته وثورته، ونتذكر أيضًا كيف تغير الموقف وتبدَّل الحال حينما ظهر الانفلات الأمنى وغاب الاستقرار السياسي، لهذا فإن الثورة برغم شرف مقصدها ونبل أهدافها يمكن أن تتحول إلى حالة من الفوضى غير المتوقعة التى تطيح ببرامج الإصلاح بل وتعطل مسيرة الحياة حتى يتوقف الإنتاج وتتراجع معدلات النمو وتتراكم المشكلات الاقتصادية، فرغم أن «الجراحة» علاج جذرى لكن نجاحها الكامل ليس مضمونًا فى كل الحالات، أما منطق «الإصلاح» فيقوم على حسابات دقيقة وبرنامج زمنى مدروس لا يكون معرضًا لهزات عنيفة أو تقلباتٍ مفاجئة، ورغم أن نتائجه قد تكون بطيئة إلا أنه يعبر فى النهاية عن ضمير الأمة ووعى الشعب.
رابعًا: إن دور «القوات المسلحة» المصرية تاريخيًا له خصوصية مميزة على اعتبار أن الجيش المصرى هو امتداد طبيعى لروح القرية والمدينة، وهو جيش وطنى شارك عبر التاريخ فى نهضة البلاد ورقيها ولكن له فى الوقت ذاته حساسية خاصة تعطيه درجة من التميز خصوصًا فى الحياة السياسية، لذلك فإن ضمانات الإصلاح كفيلة بإيجاد التوازن المطلوب للدور العسكرى فى الدولة المدنية، وسوف يظل الجيش هو الرقم الصعب فى الحياة المصرية ربما لعقودٍ قادمة، ولقد كان دور الجيش المصرى فى 1882 و1952 و1973 ثم 2011 و2013 دورًا حاسمًا انحاز فيه لصفوف الجماهير وشارك فى إصلاح الأوضاع ومواجهة الفساد والتخلص من الاستبداد.
خامسًا: إن الإصلاح هو عملية مستمرة تعيد إنتاج الوعى الوطنى وإحياء التراث الجمعي، أما الثورة فهى اندفاع شريف لتحقيق إرادة شعبية ولا يتصور أحد أننا ننتقص من قدر الثورة بل إننا نراها أحيانًا أمرًا لا يمكن تفاديه بل نشعر بأن غيابها كان يمكن أن يؤدى إلى انتكاسة وطنية لا يعلم مداها إلا الذين يدركون انفعالات الشعوب والفوران الشعبى الذى يطيح أحيانًا بكيان الدولة ويشدها سنواتٍ طويلة إلى الوراء، وبينما يعتمد الإصلاح على التعليم والبحث العلمى فإن رصيد الأمة منه يتحدد بعقول أبنائها وخبراتهم فى المجالات المختلفة ذلك أن من يحاولون الإصلاح إنما يعتمدون بالضرورة على صياغة مشروعٍ وطنى يقوم على رؤية بعيدة ويتصور مجتمع المستقبل ويحدد الأهداف المطلوب تحقيقها على المدى القصير والمدى الطويل أيضًا، أى أن عنصر الزمن وحالة التدرج يدخلان معًا فى جانب كبير من تحديد قيمة السياسات الإصلاحية وكسر الحلقة الشريرة للتخلف السياسى والتدهور الاقصادى والتراجع الثقافي.
.. ليس فى هذه الملاحظات التى سبقت شبهة فى اتجاهٍ معين دون غيره كما أننا لا نستطيع أن نقلل من قيمة الثورات وتأثيرها فى حياة الأمم والشعوب بل أننا لا نغالى إذا قلنا أن بعض الثورات قد تركت أثرًا ضخمًا فى التاريخ الإنسانى كله، وهل ينكر أحد تأثير «الثورة الفرنسية» فى الفكر السياسى المعاصر؟ وهل يخفى علينا ما تركته «الثورة الروسية» على القارة الأوروبية بل والعالم كله؟ إننا مطالبون وفقًا لذلك بإدراك المضمون الفكرى للثورات وأهميته فى دفع المجتمعات إلى الأمام، إننا إذا كنَّا نتحمس للإصلاح بصورة شاملة فإننا لا نختلف مع منطق الثورة وقدرتها على تحريك المسيرة الوطنية إلى المستقبل فى مجالاته المختلفة، إننا نقول ذلك ونحن ندرك طبيعة الأوضاع فى مصر حاليًا بعد ثورتين شعبيتين تحتاجان إلى تعزيز قوى يتأتى بمسيرة إصلاحٍ ظافرة تحمى الثورة وتدافع عن مصالح الشعب وتصون الأمن القومي، فإذا كانت الروح قد عادت إلى الجسد المصرى بعد 25 يناير 2011 فقد حان الوقت لعودة الوعى للعقل المصرى بعد طول غياب!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46726
تاريخ النشر: 11 نوفمبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/337116.aspx