أرجو ألا أكون صادمًا لأصحاب الإشارات المتفائلة فى إمكان القضاء السريع على الإرهاب الدموى فى المنطقة العربية إذ أن المسألة أكبر بكثير مما يبدو عليه المشهد حاليًا، وأنا أظن أن اسوأ أيام المنطقة لم تبدأ بعد!
لأن المتربصين بها كثر، ولأنها تخضع لمخطط له مركز فى المنطقة يقوم بتوظيف علاقاته بالأطراف الدولية الكبرى لخدمة الهدف النهائى وهو تفتيت الدول العربية وتقطيع أوصالها بدءًا بنظرية تقويض «الدولة الوطنية»، والذين يظنون أن «داعش» جماعة طارئة فى تاريخ المنطقة لا يدركون ذلك المخطط الخبيث الذى جرى إعداده للعالمين العربى والإسلامي، ويكفى أن نتذكر أن الذين يبتغون تمزيق العالم العربى إنما يفعلون ذلك وهم يرفعون رايات الإسلام ويتصورون أنهم يستعيدون أمجاد دولته الكبرى! بينما هم فى الواقع يوجهون طعناتٍ دامية لصورة الإسلام وتاريخه وحضارته، ويقدمون المنطقة كلها على طبقٍ من فضة لأعدائها وهنا يجدر تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: مازلت أتذكر بالأسف الشديد رحيل زميلى الدبلوماسى «د.إيهاب الشريف» الذى كان يعمل مساعدًا مباشرًا لى عندما كنت مديرًا لمعهد الدراسات الدبلوماسية عام 1993 والذى لقى مصرعه ذبحًا على يد «الزرقاوي» وجماعته عندما كان رئيسًا للبعثة المصرية فى «بغداد» منذ عدة سنوات ولقد كان ذلك الدبلوماسى الشهيد واحدًا من ألمع الدبلوماسيين وأكثرهم ذكاءً وكان حاصلاً على درجة الدكتوراة من إحدى جامعات «باريس» كما كانت له عدة مؤلفات حول الدول التى زارها أو عمل فيها، أتذكر ذلك الآن وأنا موقن أن تنظيم «داعش» هو امتداد لجماعة «القاعدة» فى «العراق» والتى كان «الزرقاوي» أحد رموزها قبل مقتله عندما لعبت «إيران» دورًا فى تسليمه للأمريكيين فى «العراق» حينذاك وذلك يؤكد وحدة المنظمات الإرهابية فى كل مكان.
ثانيًا: مظلوم هو الإسلام الحنيف كما لم يظلم دينٌ سماويٌ آخر فقد جرى إلصاق «الغلو» و«التطرف» و«العنف» و«الإرهاب» به على غير حقيقته، ورغم أن الإسلام يحفل بالدعوة القوية إلى «التسامح» واحترام الآخر والحفاظ على النفس البشرية إلا أنهم يحاولون تشويهه لكى يصبح دين «ذبح الرقاب» و«قطع الرءوس» والعدوان على الآمنين وترويع النساء والأطفال، والغرب يطرب لذلك وينقل تلك الأحداث الدامية كما لو كانت هى الإسلام الحقيقى فى مواجهة رأى عام دولى لا يعرف الفروق الحقيقية بين صحيح الدين وبين ما يحاولون إلحاقه به حتى إنهم استبدلوا أخيرًا باسم «داعش» اسم «الدولة الإسلامية» حتى يتم الزج بالدين الإسلامى لدى الذهن الغربى والرأى العام فى كل مكان استمرارًا لمحاولات التشويه المستميتة التى جرى تصديرها فى العقود الأخيرة ردًا على أطروحات «الإسلام السياسي» منذ نهاية الربع الأول للقرن العشرين.
ثالثًا: يجب أن نعترف أنه لم يحدث استغلال لقضية دولية كبرى ذات تأثير إقليمى كاسح مثلما جرى بالنسبة لاستخدام الصراع «العربى الإسرائيلي» فى محاولة ظالمة للخلط بين المقاومة المشروعة والكفاح المسلّح فى جانب وبين العنف العشوائى والإرهاب الدموى فى جانب آخر، ولقد حاولت جماعاتٌ متطرفة لا تبدو بعيدة عن «الإرهاب» استغلال القضية الفلسطينية ـ باعتبارها القضية الأولى فى العالمين العربى والإسلامى من أجل تشويه معالمها والنيل منها حتى أصبحت بمنزلة «قميص عثمان» يرتديها من يشاء ليحقق أهدافًا هى أبعد ما تكون عن عدالة القضية ومكانتها وحجم التضحيات الحقيقية من أجلها والشهداء الذين سقطوا فى سبيلها، لذلك فإن صناعة «الإرهاب» لا تستهدف فقط تشويه «الإسلام» ولكنها تتجاوز ذلك أيضًا إلى تشويه القضية الفلسطينية والعبث بها من هنا يبدو جليًا أن «الإرهاب» جناح مزدوج الشعور يسيء إلينا من كل اتجاه، وتقف وراءه قوى شريرة ليست بعيدة عن المنطقة.
رابعًا: إن العمل الإرهابى لا تنتهى جرائمه بين يومٍ وليلة بل هو خطر ممتد يحتاج إلى نفسٍ طويل فى مواجهته، لذلك فإنه عندما نقول إن الحرب على «الإرهاب» حربٌ طويلة فإننا لا نجافى الحقيقة لأن الأمر يحتاج إلى تحول ثقافى ضخم وعملية نوعية كبيرة تؤدى إلى غسيلٍ للعقول وتنقية للأفكار، وهذه كلها تحتاج للاهتمام بالثقافة والتعليم والإعلام والمؤسسات الدينية مثل «الأزهر» و«الأوقاف» و«دار الإفتاء»، ونحن نعوِّل كثيرًا على أهمية التعليم للخروج من المأزق الذى نتعرض له وحتى نتمكن من مواجهة طاعون العصر وأعنى به ذلك «الإرهاب الأسود» الذى يستهدف المدنية الإنسانية والحضارة البشرية ولندرك هنا أن الفنون والآداب وغيرهما من أدوات «القوة الناعمة» هى لوازم ضرورية لمكافحة هذا الوباء والتعريف بصحيح «الإسلام» وسماحته وإظهار جانب العدالة للقضية الفلسطينية والتبصير بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى الذى تجرى محاولات ملحوظة لدمج كفاحه الوطنى بالإرهاب الإقليمي!
خامسًا: مازالت لدى قناعة شديدة بأن «الإرهاب» صناعة غربية لا تقف «الولايات المتحدة الأمريكية» بعيدة عنها كما ترصدها الدولة «العبرية» فى رضا وسعادة وتحصد إيجابيًا من كل محاولات إضعاف المنطقة وتقسيم دولها وتفكيك شعوبها لأن هناك مصلحة مباشرة فى ظهور التنظيمات الإرهابية الجديدة فى المشرق العربى حتى تنشغل الجيوش وشعوبها من ورائها بالخطر الجديد الذى يستهدف استقرار المنطقة وترويع مجتمعاتها وتعطيل نهوضها وتقليص دورها الذى يجب أن يسعى نحو صناعة المستقبل، لذلك فإن الخطر الداهم من الإرهاب إنما يتجه نحو شعوبٍ لها قضاياها العادلة ومواقفها الثابتة وحقوقها المشروعة، وسوف تظل المواجهة بينها وبين جماعات «الإرهاب الدولي» محتدمة ربما لعقدٍ قادم من الزمان أو أكثر.
.. هذه قراءةٌ سريعة تدور حول ملف «الإرهاب» وأساليبه ومخاطره وهى كلها لا تخفى علينا فنحن جزءٌ من أجندة طويلة المدى تحتاج منّا إلى الصبر الطويل والرؤية الثاقبة مع سرعة المبادرة والقدرة على المناورة إذ لا يصح أن نكتفى بالإعلام الزاعق والتعبيرات الصارخة مهما بلغ بنا الضعف المرحلى أو التراجع القومى لأن الهزيمة قرار عقلى كما أن الانتصار قرار عقلى أيضًا!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46740
تاريخ النشر: 25 نوفمبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/341684.aspx