ذهبتُ برُفقة زميلى السكرتير أول (رفيق صلاح الدين) -وقد كان واحدًا من ألمع سفرائنا فيما بعد أطال الله فى عمره- وكنتُ أنا سكرتيرًا ثانيًا بالسفارة، إلى مبنى وزارة الخارجية البريطانية لمقابلة المسئولين عن قسم (مصر)، وقد كان المسئول عن منطقة الشرق الأوسط السفير (ديفيد جوربوث)، بينما كان المسئول عن قسم (مصر) المستشار (نيكسون).
وكان هدف زيارتنا للوزارة فى لندن البحث فى ترتيبات الزيارة الرسمية الأولى للرئيس الراحل (أنور السادات) إلى (المملكة المتحدة) عام 1975، وبدأنا الحوار معهما، فإذا بهما يحاولان الإقلال من المستوى المراسيمى للزيارة، فقد قال لنا رئيس قسم الشرق الأوسط: إن زيارات الملوك والرؤساء لبريطانيا أنواع ثلاثة: زيارة دولة، وهذه مرة واحدة فى العام لأحد رؤساء الدول أو ملوكها، وزيارة رسمية، ويكون الإعداد لها سابقًا بما يزيد على ستة أشهر، وزيارة عمل، وهى تلك الزيارة الطارئة التى يجرى الإعداد لها قبلها بأسابيع قليلة، وعلى ذلك فإن زيارة الرئيس (السادات) زيارة عمل، وسوف يحل ضيفًا على قصر الملكة (باكنجهام بالاس)، ولذلك فإنه وفقًا للقواعد البريطانية لن تستقبله الملكة على باب القصر، ولكن على باب الجناح الذى يقيم فيه؛ لأن هذه زيارة عمل، وليست أكثر من ذلك.
ولم يعجب (رفيق صلاح الدين) ذلك الحديث، وقال لهم: لو أن (عبدالناصر) كان قادمًا لزيارتكم لاستقبلته المقاتلات البريطانية من المجال الجوى لـ(جزيرة قبرص) احترامًا وتقديرًا، فأنتم تحترمون من تخافون، ولا تحبون من لا ترهبون! وأغلق الدبلوماسى المصرى الذكى الملف الذى كان أمامه ودعانى إلى الخروج معه من الاجتماع، وأخذنا المصعد إلى الدور الأسفل، وفوجئنا بالسيدين (جوربوث) و(نيكسون) قد سبقانا على الدرج باعتذارات شديدة وقرار جديد باعتبار زيارة الرئيس (السادات) زيارة رسمية تستقبله فيها الملكة على باب القصر، وليس باب الجناح.
وجاء الرئيس (السادات) وفضَّل أن يقيم فى فندق (كلاريدج) بدلاً من القصر الملكى، والتقى أعضاء الجاليتين المصرية والعربية فى بهو السفارة وإلى جانبه أستاذ الاقتصاد الراحل الوزير (د. محمد زكى شافعى)، وعن يساره السفير (سميح أنور) سفير (مصر) فى (المملكة المتحدة) حينذاك، وبدأ الرئيس (السادات) يتحدث قائلاً: (أريد أن تطمئنوا على بلدكم ولا تقلقوا من المستقبل، فنحن نمضى فى الطريق الصحيح).
وبدأ أعضاء الجالية يوجهون الأسئلة المختلفة للرئيس المصرى الذى يرونه بطل الحرب والسلام، وأتذكر من النوادر التى لا أنساها أن الفنان الراحل (صلاح منصور) كان يجلس فى الصف الأول؛ لأنه كان فى العاصمة البريطانية بقرار علاج لابنه على نفقة الدولة من وزارة الصحة المصرية -بند العلاج فى الخارجوقتها- وكانت مدة قراره على وشك الانتهاء ويريد أن يمدد فترة بقائه فى (لندن)، وكان له حظوة عند الرئيس (السادات)، فرفع يده، فقال له الرئيس الراحل: ماذا تريد يا (صلاح)؟ فقال: إن علاج ابنى لم ينتهِ وأريد شهرًا آخر لاستكمال علاجه، فقال له الرئيس الراحل: عليك بلقاء أحد سكرتارية مكتبى الموجودين معى بعد انتهاء اللقاء ليقوم بتحضير القرار اللازم، فقال له (صلاح منصور) بطريقته المسرحية الرائعة: (عندما ينتهى حديثك يا ريس لن أرى أحدًا! لابُدَّ أن تُقرر القرار من الآن حتى يتم تنفيذه، خصوصًا أن السفير موجود على يسارك)، وضجَّ الحاضرون بالضحك، وتدخل السفير قائلًا: (لقد أخذتُ التعليمات، وسوف يتم اللازم)، فلقد كان الفنان الراحل (صلاح منصور)، وقد عايشته شهرين فى (لندن)، شخصية أسطورية ذات أبعاد فريدة، وكان يحكى لنا أن فيلمه عن (حرب اليمن)، والذى جسَّد فيه شخصية (الإمام أحمد) كان واقعيًا لدرجة أن الرئيس (السلال) كان يجلس بجانب الرئيس (عبدالناصر)، وكان يفزع من بعض اللقطات ويقف فى بعض المشاهد رهبةً من شخصية (الإمام أحمد) الدموية، والتى جسَّدها (صلاح منصور) ببراعة فائقة.
وأتذكر أيضًا للرئيس الراحل أنه طلب أن يرى زميلنا الدبلوماسى فى السفارة (عبدالحميد جمال عبدالناصر)، واستقبله فى الفندق وسأله عن أحواله، وقد كان (عبدالحميد) شابًا هادئًا ومتزنًا يهوى إصلاح السيارات، ولديه خبرة كبيرة فى ذلك الشأن.. إنها خواطر ألحَّت علىَّ، وذكريات عبرت أفق خيالى!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 222
تاريخ النشر: 19 أبريل 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b2%d9%8a%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%89-%d9%84%d9%80%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%85%d9%84/