ليس من شك فى أن مصر واحدة من أقدم الأمم وأعرقها على الإطلاق فهى صاحبة حضارة ملهمة مازالت الدنيا تحاول فك ألغازها وفهم المغزى العميق الذى وقف وراءها، فهذه الدولة بأعماقها وآفاقها ظلت عبر التاريخ مركز جاذبية واهتمام حتى أن علم «المصريات» يعتبر واحدًا من الدراسات الأساسية فى تاريخ الحضارات وعلم سيكولوجية الشعوب، والآن دعنا نغوص قليلاً فى أعماق تلك الدولة نتلمس بعض ما يمكن أن نمضى نحوه ونستند إليه لفهم السبب فى حالة الارتباك السياسى والثقافى والاجتماعى التى طرأت على مصر فى العقود الأخيرة، نسوقها فى النقاط التالية:
أولاً: إن الدول ذات الحضارات القديمة التى تضرب بأعماقها فى جذور التاريخ تبدو أقل قابلية وأكثر صعوبة فى التحرك إلى الأمام بحيث تصبح أكثر معاناة من تلك التى لا تملك رصيدًا تاريخيًا ضخمًا وذلك بسبب ركام ضخم من المواريث المستمدة من قيمٍ قديمة وتقاليد قد تكون بالية وهى التى تكبل حركتها إلى الأمام، إن دولاً مثل «الصين» و«الهند» و«بلاد النهرين» و«مصر» لا تستطيع البناء إلا على الأسس القديمة بينما نجد الدول الإفريقية الحديثة قادرة على نقل التجارب الأخرى بسهولة دون ارتطامٍ بذلك الحجم الضخم من الميراث الحضارى الكثيف.
ثانيًا: إن «مصر» التى تحدثنا عنها دائمًا بعبارات «الدولة العميقة» هى أيضًا ذاتها «الدولة العريقة» بحيث ترى الماضى والحاضر فيها معًا فى وقتٍ واحد، لقد رأيت بعينى فى «الهند» ـ على سبيل المثال ـ أقصى التقدم وأشد التخلف يمضيان معًا فى وقتٍ واحد! كما رأيت هناك أيضًا الفقر المدقع والغنى الفاحش لأنها ظلال حضارةٍ ضخمة لايمكن البدء فيها من درجة الصفر بل لابد من التشييد على دعائم قائمة بالفعل حتى ولو لم تكن دعائم عصرية وذلك يؤدى أحيانًا إلى ضعف روح التجديد نتيجة الارتباطات «الماضوية» التى تمثل حاجزًا فى مسارات التقدم إلى الأمام! وهنا لا أجد غضاضة فى أن أقول أن بعض التقاليد الثقافية والمواريث الحضارية بل والروح الدينية أيضًا تمثل أمام بعض الأمم القديمة مانعًا فكريًا دون اقتحام العصر الحديث بما له وما عليه بحيث تصبح تلك الشعوب العريقة أسيرة لقيد ضاغط من الأفكار والقيم والمشاعر، فالثقافة عامل رئيس يؤثر فى المستقبل ويغير معالمه ويرسم خريطة مختلفة لأنها تأثرت بروح الماضى الذى لا تملك الفكاك منه.
ثالثًا: إن الأمم كالبشر تصيبها الشيخوخة ويعتريها الهرم، وكم من حضارات سادت ثم بادت، كما أن استقراء التاريخ يعلمنا دائمًا أن هناك حضاراتٍ ارتفعت فى عصورٍ معينة ثم تراجعت بعد ذلك، إن «أسبانيا» و«البرتغال» كانتا فى المقدمة إبان عصر الكشوف الجغرافية، و«بريطانيا» و«فرنسا» كانتا فى المقدمة إبان الحقبة الاستعمارية، ثم دخلنا فى عصر «السلام الأمريكي» Paxa Americana فليست هناك أبدية للتقدم والازدهار وإن كانت معايير العصر الحاضر توحى بأن انتعاش الأمم قد يطول كثيرًا عن عصور سابقة بمنطق التقدم العلمى والتفوق التكنولوجى وليس بالقوة العسكرية وحدها التى كانت من قبل معيارًا متقدمًا، ولذلك فإن بلوغ بعض الأمم مرحلة الشيخوخة والهرم يؤثر على تناولها لمعطيات العصر واستخدامها لأدواته ويضعنا أمام تحديات جديدة تضاف إلى المصاعب التى تواجه الديمقراطية والتنمية معًا، وتؤثر على قدرتها فى الانتشار الواسع والحركة السريعة.
رابعًا: إن غياب المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، بين الماضوية والتحديث، بين السابق والمتجدد قد أصبحت تفرض نفسها على حركة الأمم العريقة والدول العميقة خصوصًا تلك التى تمتلك جهازًا إداريًا ربما انتهى عمره الافتراضى ولكنه مازال قائمًا يكبل الحركة ويمنع المضى إلى الأمام، إن تلك الروح التى تتمسك بالقديم تذكرنا بشعار ساد منذ سنوات تقول فيه شركات المعمار (انسف حمامك القديم) وهنا تبدو المفارقة فالأمم والشعوب لا تنسف ماضيها بل تظل متأرجحة بين القديم الذى لديها وبين الجديد الذى لاتتقبله بسهولة، إنها المعادلة الصعبة التى عرفتها شعوب وأدركتها دول منها «مصر» التى أشعر أحيانًا أن كثيرًا من مظاهر الحياة العريقة فيها قد أصابتها أعراض كبر السن والشيخوخة، ولعل الاتجاه لبناء «عاصمة إدارية» للكنانة هو تعبير غير مباشر عن العلاقة بين الماضى والمستقبل بين التراث والحداثة.
خامسًا: إن قضية الهوية ذات طابع حضارى وثقافي، فالتعريف الدقيق للحضارة هى أنها «نسق ثقافي» ومنظومة إنسانية متكاملة من البشر إلى الحجر ولكنها تترك بصمة قوية على وجه الأمة وفى وجدان الشعب، لذلك فإن التمسك بها لا يقاوم التحديث ولا يعتبر نقيضًا للتقدم، لقد عشت فى «الهند» سنوات ورأيتهم كيف يبنون قواعد المستقبل منطلقًا من الهوية الهندية والشخصية الحضارية لتلك الأمة الكبيرة، ولعلنا نؤمن فى عالمنا العربى بأن التمسك بالثقافة القومية لايمنع التجدد والتطور والتقدم، فلكل دولة ظروفها ولكل دولة تراثها ولكل شعب مقوماته ويجب أن ندرك هنا أن الحداثة ليست هى «التغريب» كما أنه لا يعتبر كل تحديثٍ هو مضيًا على طريق الغرب! فالأمم الشرقية خصوصًا «الصين» و«الهند» و«اليابان» قد مضت فى طريقها منطلقة من هويتها القومية ولم تتحول إلى مسخٍ مشوّه من تجارب غربية قد لاتصلح بالضرورة لبلادنا العربية، فالخصوصية علامة مميزة و«ماركة مسجلة» فى التجارب الإنسانية الحديثة.
.. إن الملاحظات السابقة تعطينا قراءة واضحة للعلاقة الوثيقة بين الدولة العريقة والرؤية الغائبة، «فالكتالوج» الذاتى هو الذى تبنى به الدول مستقبلها وتشيد ـ وفقًا له ـ معالم غدها مع احتفاظها بالهوية وحرصها على النسق الثقافى والسلوك الإنسانى اللذين تميزت بهما دائمًا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46866
تاريخ النشر: 31 مارس 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/375428.aspx