استن الإمام «الطيب» شيخ «الأزهر» سنة حميدة بعقد جلسات عصف ذهنى موسعة تحت مظلة «الأزهر الشريف» يدعى إليها مثقفون ومفكرون وأدباء وعلماء ويتصدرها أساتذة «الأزهر الشريف» وعمداء كلياته الشرعية وذلك امتدادًا لدوره الآخر فى إنشاء «بيت العائلة» والإنجازات التى تحققت من خلاله، وتعتبر هذه الجلسات بمثابة «جلسات استماع» يستمع فيها الإمام الأكبر وعلماء «الأزهر» إلى وجهات النظر فى القضايا المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد حققت هذه اللقاءات نجاحات ملموسة تمثلت فى «وثائق الأزهر الشريف» التى صدرت وتصدر برعاية وإشراف الإمام الأكبر ويهمنى هنا أن أشير إلى الملاحظات التالية:
أولًا: لم يكن «الأزهر» مجرد مركز دينى كبير فقط ولكنه تجاوز ذلك عبر تاريخه الطويل لكى يكون قلعة وطنية ومدرسة شاملة فى تطوير الحياة المدنية وتنمية المجتمع إذ يرجع الفضل فى النهوض بالريف المصرى إلى علماء «الأزهر الشريف» المنتشرين فى القرى والكفور والنجوع حيث تعتبر «خطبة الجمعة» هى المصدر الرئيسى لثقافة المواطن البسيط، كما لعب «الأزهر» دورًا آخر له أهمية خاصة فى تاريخ «مصر» الحديث وأعنى به ترقية الآداب والفنون فخرجت منه قوافل الشعراء والأدباء والكتاب كما خرجت منه أيضًا قوافل الفنانين بدءًا من الشيخ «سلامة حجازي» مرورًا بالشيخ «سيد درويش» وصولًا إلى الشيخ «زكريا أحمد» والشيخ «سيد مكاوي» وهذه نقطة تحسب «للأزهر الشريف» من حيث إسهامه الكبير فى كافة مجالات الحياة لذلك فهو يمثل فى التاريخ المصرى قاطرة للتقدم على مدى أكثر من ألف عام، ولم يقف «الأزهر» عند هذا الحد بل كان موردًا للسياسيين أيضًا فما أكثر من بدأوا حياتهم فيه خصوصًا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وما أكثر المفكرين والمبدعين والساسة الذين «جاوروا» فى «الأزهر» ونهلوا من علومه ودرسوا على يد شيوخه الكبار.
ثانيًا: كان «الأزهر» ملاذ التيارات الوطنية والقوى السياسية خصوصًا فى العصر الحديث فهو الذى وقف أمام ظلم «العثمانيين» وعسف «المماليك» وجبروت «الفرنساوية» وعدوان «نابليون» وخلفائه فضلًا عن مواجهة «الأزهر» لكل الغزاة والطغاة والبغاة فكان حائط سد منيع فى مواجهة الظلام، ولكن جاء عليه حين من الدهر ضعف تأثيره وخارت قواه بفعل الانهيار الشامل فى الدولة المصرية خلال مراحل مختلفة من تاريخها أو نتيجة ظهور حاكم مستبد يكمم الأفواه ويغلق نوافذ الحرية وعندئذ يلجأ «الأزهر» إلى «التخندق» فى موضعه حتى تنقشع الغمة، ولقد اهتمت أسرة «محمد علي» «بالأزهر الشريف» وحاولت استخدامه لاكتساب مزيد من الشرعية ولن ننسى أن علماء «الأزهر» هم من نصبوا «محمد علي» واليًا على «مصر» عام 1805 كما أن «الأزهر» كان داعمًا فى البداية «للحركة العرابية»، وعندما قامت ثورة يوليو 1952 قام الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» بإعادة تنظيم «الأزهر الشريف» وأدخل عليه الكليات الحديثة التى جعلت «جامعة الأزهر» أهم من «الجامع» ذاته، كما أقام «عبد الناصر» إذاعة «القرآن الكريم» وهو الذى كان يأمل فى تربية جيل من الدعاة الذين يجيدون علوم الدنيا والدين ويدعمون سياساته فى الدوائر الافريقية والعربية والإسلامية، وعندما جاء الرئيس «السادات» قام بتعديل الوضع «البروتوكولي» لشيخ «الأزهر» ليجعله بدرجة نائب رئيس وزراء وذلك بعد زيارة قام بها شيخ «الأزهر» الراحل الإمام «الفحام» إلى «الجزائر» حيث لفت الرئيس «بومدين» نظر الحكومة المصرية إلى ضرورة تعديل وضع الإمام الأكبر فى السلم الهرمى للدولة المصرية حتى تحسن الدول الأخرى استقباله، وجدير بالذكر ان أممية «الأزهر» قد جاءت ذات يوم بشيخ تونسى الجنسية جزائرى الأصل هو الشيخ «الخضر حسين» والذى اختاره الرئيس «عبد الناصر» شيخًا «للأزهر» متجاوزًا زملاءه من المصريين إيمانًا بوحدة العالم الإسلامى وعالمية «الأزهر»، وقد كان لدينا «عالم سوداني» شغل منصب وكيل «الأزهر»، و«عالم شامي» شغل منصب عميد كلية الشريعة ومن هنا تأتى أهمية ذلك المركز الإسلامى الفريد الذى لانظير له.
ثالثًا: لقد كثر الحديث فى الآونة الأخيرة عما يسمى «بتجديد الخطاب الديني» وأنا أميل إلى رأى الروائى الكبير «جمال الغيطاني» من أن التسمية الأدق هى «إصلاح الخطاب الديني» فى إطار منظومة إصلاح شامل تنهض بالعقل المسلم وتخرج به من «ظلمات الخرافة» و«غياهب التردي» فى آراء فقهية مدسوسة وتوجهات دخيلة على سماحة «الإسلام» وعظمة ذلك الدين الحنيف، ولاشك أن منظومة الإصلاح سوف تأخذ فى مضمونها رد الاعتبار لروح التسامح التى جاء بها «الإسلام» لتجرف أمامها كل خزعبلات التطرف ودوافع التعصب وأسباب التدهور التى وضعت «الإسلام» فى مواجهة مفتعلة مع روح العصر وأفكاره وأدت إلى شن حرب غير مقدسة تسعى لتشويه «الإسلام» وتصويره وكأنه يعادى الحريات ويحتضن التعصب بل ويشجع على «الإرهاب»، إننا أمام حالة تحتاج إلى مواجهة حاسمة وليس لغير «الأزهر» أن يقودها بحكم تاريخه وحاضره ومكانته.
رابعًا: إن مثل هذه اللقاءات التى يترأسها الإمام الأكبر بحضور مجموعة متنوعة الثقافة متعددة الخبرة تؤدى إلى انصهار فكرى فى بوتقة إسلامية وطنية، وإذا كنا نرى أن «التجديد العقلي» هو الطريق لإصلاح الخطاب الدينى فإننا نظن أن تنقية مجمل «الفقة الإسلامي» مما شابه من أفكار دخيلة وروايات مدسوسة خصوصًا فى القرن الثالث الهجرى عندما تداخلت الأمصار واندمج «العجم» فى «العرب» وتعددت الأهواء واختلفت المشارب، إنها عملية ضرورية ندعو إليها على أن يقوم بها علماء ثقاة لديهم احترام مطلق للنص القرآنى والأحاديث المؤكدة مع إعمال «فقة الأولويات» فى حياتنا خصوصًا أن الإسلام يرى «أننا أعلم بأمور دنيانا».
خامسًا: إن أسلوب الموعظة الهادئة وأهمية تغيير الخطاب الأسبوعى فى «صلاة الجمعة» أمر له أهميته لأن تلك الخطبة الأسبوعية هى مصدر ثقافة البسطاء ولها تأثير عميق لدى شعب تزيد فيه الأمية على ثلث سكانه، كما أن الخطاب الزاعق ولغة الوعيد المخيف واستخدام عبارات منفرة هذه كلها ليست من «الإسلام» فى شىء وهو دين يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ويفضل الترغيب على الترهيب ويحترم العقل الإنسانى ويراعى مقتضيات الحال ويقبل ما تجمع عليه الأمة لأن الأمة لا تجمع على ضلال.
هذه رؤية تيار من المثقفين لدور «الأزهر الشريف» وشيخه الجليل فى مواجهة عالم يموج بالقلاقل ويعانى من «الإرهاب» وتدور فيه حرب غير مقدسة ضد «الإسلام» يشارك فيها مسلمون وغير مسلمين، ولكن يبقى «الأزهر الشريف» حصنًا منيعًا لحماية صحيح الإسلام إلى يوم الدين.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46936
تاريخ النشر: 9 يونيو 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/404855.aspx