إننى لا أقصد هنا الرئيس «عبد الفتاح السيسي» الشخص ولا حتى الموقع، ولكننى أقصد بوضوح نتائج 30 يونيو و3 يوليو2013 حيث جاء النداء الشعبى بشكل غير مسبوق مطالبًا بعودة الشرعية إلى أحضان الوطن المصري، والتوقف عن العبث بهوية «مصر» وأنا الآن بعد عامين من ذلك الحدث الضخم فى التاريخ المصرى المعاصر، وبعد عام من انتخاب الرئيس الحالى فإننى أنبه بشدة إلى محاولات نشر نوع من الإحباط فى صفوف الشعب المصرى والترويج لفكر انهزامى يحاول الإقلال من الانجازات والتركيز على السلبيات، إنه تفكير عدمى لا يبحث فى مظاهر النجاح ولكنه يتصيد بعض مؤشرات الفشل، وأنا لا أزعم أن الأمور قد بلغت حد الكمال، أو أننا حققنا قدرًا كبيرًا مما تطلعنا إليه ولكننى أدعى أننا بوجه عام نمضى على الطريق الصحيح ولكن لابد من الوضع فى الاعتبار النقاط التالية:
أولًا: لقد كان قدر «مصر» عبر تاريخها الطويل أن تكون هدفًا للطامعين، وأملًا للمغامرين لأنها تملك جاذبية شديدة لدى الغزاة والطغاة والبغاة، وقد تحملت من الضغوط ما جعلها دائمًا دولة ذات مقاومة ذاتية وقدرة تلقائية على الصمود والبقاء، و«مصر» تمر حاليًا بفترة لا نقول إنها وردية بل هى تتصف بالصعوبة والحساسية، ومع ذلك ورغم كل ما ندركه من تلك الأمور التى تحيط بنا إلا أننا نعرف قدرة «مصر» على المضى نحو غاياتها وتحقيق أهدافها، ويكفى أن نتذكر أن «الكنانة» قد واجهت المتاعب والمصاعب وانتصرت عليها، وعرفت التحديات وقهرتها، وظلت صامدة بعمر الزمان، لأن هناك معادلة بسيطة يجب أن نتنبه لها، وهى أن من يحقدون على «مصر» لا يريدون لها السقوط فتغرق معها المنطقة، ولا يريدون لها التحليق إلى أعلى فتمتد أذرعها فى الداخل والخارج، فالمطلوب هو أن تطفو فقط على سطح المياه دون أن تعوم مع التيار أو ضده.
ثانيًا: إننى أكتب هذه السطور ولا أضع لما أقوله حسابات أو محاذير، لأن الوطن يمر بمرحلة شديدة الحساسية بالغة التعقيد، ويتكالب عليه أعداء من الخارج ذ دول وجماعات وأفراد ذ لا يريدون له خيرًا، ولا يبتغون له استقرارًا، والوطن ماضٍ فى طريقه، لأن الكل يعرف أن هذا هو الطريق الذى يجب أن نسلكه مهما كانت العوائق والعقبات، إنه ليس طريقًا سهلًا، ففيه أشواك ندفع ضريبتها دمًا وعرقًا ودموعًا على حد التعبير الشهير للداهية البريطانى «ونستون تشرشل» والشيء المفزع هو أنه قد بدأت تشيع فى كثير من الأوساط نغمة انهزامية محبطة تحاول زرع اليأس فى قلوب بسطاء الناس بدعوى أننا لا نمضى على الطريق الصحيح، وأن الألغام تحيط بنا من كل اتجاه، وقد يكون جزء من ذلك صحيحًا، ولكن اعتراضنا يكون على رد الفعل الذى يدفعنا إلى الوراء ويحبط مسيرتنا من كل اتجاه، لذلك فإن اختبار المعدن المصرى وصلابته وتراكم خبراته التاريخية هو الفيصل فى كل ما نرى من أحداث، وما يمر بنا من أزمات.
ثالثاً: إن الوضع الذى تعيشه «مصر» الآن لم يكن قرارًا دكتاتوريًا، ولكنه كان خيارًا شعبيًا اتفق عليه المصريون فى لحظة معينة، ولذلك فالإدعاءات الخارجية بأن «مصر» شهدت فى 3 يوليو 2013 انقلابًا على الشرعية هى ادعاءات زائفة، وإذا كانوا يصرون على كلمة انقلاب فهو «انقلاب شعبي» إذ انقلبت الجماهير على الحاكم عندما اكتشفت أنه لا يتصرف وفقًا لأجندة وطنية، ولا يقف على أرضية مصرية خالصة فسحب المصريون «التفويض» وقاموا بإلغاء «التوكيل» وبدأوا مسيرة وطنية من جديد، لذلك فإن الافتراءات التى تروج لها دوائر غربية وعربية وتتحدث باسمها أصوات «تركية» هى استهداف مباشر لاستقرار «مصر» وأمن شعبها والمصالح العليا التى ترسم طريق مستقبلها، إننا أمام ظرف تاريخى من نوع خاص يتوهم فيه أعداء «مصر» أن بمقدورهم العودة إلى الوراء والعبث بمقدرات شعب عانى طويلًا، ولن يضيع الفرصة الأخيرة على أجياله القادمة.
رابعًا: إن تكاثر الأعداء ودموية ردود الفعل هو ثمن لابد أن ندفعه إن لم يكن اليوم فسوف ندفعه مضاعفًا الغد، إننا أمام عملية تحطيم للمعنويات وترويج لليأس، بينما الحكمة تقول (تفاءلوا بالخير تجدوه)، وليس من حق قوة خارجية مهما تكن أن تفرض وصاية على الوطن، أو تحدد مسارًا لا يرضى عنه الشعب، ولو تأملنا الأعوام الخمسة الأخيرة فقط لوجدنا أن «مصر» قد عبرت منعطفات كثيرة وتغلبت على مصاعب جمة، ولن يزايد عليها أحد، فالشعب الذى قهر الماضى قادر على النهوض بالحاضر والبناء للمستقبل.
خامسًا: إن المشكلة الحقيقية هى أننا نتعامل مع سطح المجتمع ولا نصل إلى القاع، فالفقر هو القنبلة الموقوتة التى تهدد المستقبل، ويتعايش عليها أعداء هذا الوطن مستغلين معاناة الفقراء وحالة العوز المرتبطة بتدنى الخدمات الصحية، وتراجع الخدمات التعليمية، إلى جانب الآثار السلبية للزيادة السكانية، لقد قال لى وزير الاتصالات الأسبق الدكتور «ماجد عثمان» وهو واحد من أبرز رواد استطلاعات الرأى العام فى العالم العربى إن العينات التى تجرى عليها دراسات الرأى العام المصرى يحصل فيها الرئيس «السيسي» على تسعين بـالمائة، بينما يحصل رئيس وزرائه على سبعين بالمائة، ويتأرجح الوزراء حول معدل الخمسين بالمائة، بينما تهبط النسبة للمحافظين إلى ما دون ذلك بكثير حتى إذا وصلت إلى المحليات وجدنا رفضًا قويًا للأوضاع السائدة فى قاع المجتمع، واكتشفنا عجزًا شديدًا لدى القيادات التى تدير القرى والمراكز والأحياء على امتداد خريطة الوطن، وإذا كانت المعاناة هى المؤشر للحالة المصرية العامة فإن الحق يقتضى أن نقول إن جهودًا كبيرة تبذل على الساحة الداخلية، ناهيك عن الاختراقات الناجحة فى السياسة الخارجية، ومع ذلك تشوه «البيروقراطية» المصرية والعناصر الهزيلة فى الإدارة ـــ على كافة مستوياتها ـــ ما يمكن أن يتحقق للوطن بصورة تجهض الجهود البناءة، وتعصف بالنوايا المخلصة، وتحطم النماذج الصادقة.
.. هذه ملاحظات خمس أردنا بها أن نقول إن الوصول إلى قاع المجتمع يجب أن يكون هدفنا الرئيسى وغايتنا الأساسية، فالمواطن العادى هو سيد الموقف وهو الذى يعطى تأييده للحاكم الوطني، ولست أدعى أن كل ما يجرى على أرضنا صحيح وسليم ورائع، ولكننى أزعم أن النوايا طيبة، وأن الوطنية المصرية هى سيدة الموقف رغم المعاناة التى لم تتوقف، والفقر الذى لم يهزم، والخدمات التى لم تتقدم!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46950
تاريخ النشر: 23 يونيو 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/407411.aspx