عدتُّ من (فيينا) حيث كنت أعمل سفيرًا لبلادى فى مثل هذه الأيام منذ عشرين عامًا، وقد انقضى نصف المدة تقريبًا، وكان لابد أن أعود لأستقبل أول حفيد لى من ابنتى الكبرى، ولقد دخلت أمى المريضة -رحمها الله- فى غيبوبة بعد وصولى بيومين فقط، وظلت على ذلك الحال ثلاثة أسابيع، حيث رحلت عن عالمنا فى توقيت حدده لى قبلها أستاذ أمراض الكبد العالم الراحل (د. ياسين عبدالغفار)، وكأنما كان يقرأ فى كتاب مفتوح مع أن لكل أجل كتابًا كما نعلم جميعًا.
وعدتُّ إلى مقر عملى حزينًا متألمًا ومتأملاً وكأنما بدأت فصلاً جديدًا فى حياتى؛ لأن رحيل الأم فاجعة من نوع خاص؛ نتيجة خصوصية العلاقة مع الابن تحديدًا. وعندما وصلت إلى السفارة وذات مساء أبلغنى (البدال) أن اتصالاً قد ورد لى من السفارة العراقية فى (فيينا)، وقد ذكر السفير العراقى أن هناك اتصالاً هامًا سوف يأتينى من السيد (طارق عزيز) نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية لأمر لا يعلمه، وكان ذلك فى يونيو 1997، وبعد دقائق دق جرس التليفون، وكان المتحدث هو السيد (طارق عزيز) الذى قال لى إنه يريد إبلاغى عزاء الرئيس القائد (صدام حسين) وأعضاء القيادة القُطرية ومجلس الوزراء فى وفاة والدتى التى رحلت منذ أيام.
ذكر السفير العراقى أن هناك اتصالاً هامًا سوف يأتينى من السيد (طارق عزيز) نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية لأمر لا يعلمه، وكان ذلك فى يونيو 1997
وتأثرت لهذه المجاملة غير المتوقعة، وأبلغته شكرى للرئيس وله ولزملائه، ثم أضاف أنه سوف يأتى إلى (فيينا) خلال أسابيع لأنها العاصمة الوحيدة التى يمكن أن تستقبله لعلاج انحراف لديه فى الحاجز الأنفى، فقلت له: (يا معالى الوزير، إن انحراف الحاجز الأنفى ظاهرة عامة بين كثير من مواطنى الشرق الأوسط)، فرد قائلاً: (لأن الشرق الأوسط حافل بالانحرافات!)، فقلت له: (إننا لا نريد أن نسيس المكالمة، وأتمنى لكم الشفاء ولبلدكم الاستقرار).
وذهبت إلى مكتبى فى اليوم التالى فإذا باتصال يأتينى من صديق عزيز هو سفير (دولة الكويت) فى فيينا (فيصل الغيص) يقول: (علمت أنك تلقيت اتصالاً هاتفيًا من «طارق عزيز» أمس فهل يمكن أن أعرف منك محتواه؟)، فقلت له وقد كان قريبًا منى: (يا «فيصل»، إن سفارتك إما أن تكون قد اخترقت السفارة العراقية أو السفارة المصرية)، فقال لى: (إننا لا نستهدف السفارة المصرية أبدًا، ولكننى أريد بحق الزمالة والمحبة أن تقول لى ماذا كان يريد وزير خارجية «صدام حسين»؟ هل كان يبلغك رسالة توصية لإبلاغها إلى الدكتور «محمد البرادعى» مدير عام الوكالة الجديد لكى يترفق بـ«العراق» ويكون معها وليس عليها؟)، فقلت له: (يا سعادة السفير، إننى شديد الدهشة مما تقول، فلا علاقة للمكالمة على الإطلاق بشىء من ذلك، وأنا أريد أن أسألك لماذا زرتنى فى بيتى أمس الأول فور عودتى من (القاهرة) أنت وكل الزملاء السفراء العرب والأفارقة؟ فقال لى: (كان ذلك للعزاء فى والدتك الراحلة)، فقلت له: (وهذا أيضًا هو سبب المكالمة من «بغداد»، ولا يوجد سبب آخر على الإطلاق، وأنا لا أسمح لنفسى بالتداول فى شئون شديدة الحساسية دون الرجوع لبلادى، ولم أجد فى المكالمة ما يدعو لذلك)، فضحك (فيصل الغيص) كثيرًا وقال لى: (إنما أردت أن أعرف لكى لا تستبد بى الهواجس والظنون).
ولقد حرصت على ذكر هذه الواقعة لأبين أن التوقعات المختلفة حول الحدث الواحد ليست دائمًا صحيحة، وأن الإنسان يمكن أن يتهيأ له ما لا وجود له. وقد ظلت علاقتى بأشقائنا فى (الكويت) راسخة وقوية، خصوصًا أننى كنت سكرتير الرئيس للمعلومات، الذى أبلغه بحادث الغزو العراقى المشئوم لدولة (الكويت)، وقد أيقظت الرئيس الأسبق (مبارك) فى الثالثة صباحًا عشية الثانى من أغسطس عام 1990 لكى أبلغه بما جرى.
كما أننى حرصت أيضًا على علاقات طيبة ببعض الأصدقاء فى (العراق)؛ لأننى مؤمن بأن العروبة لا تتجزأ، وأننا فى النهاية -مهما اختلفت آراؤنا وتباينت مواقفنا- أبناء أمة واحدة فى السراء والضراء. ولقد تعاطفت كثيرًا مع (طارق عزيز) أثناء محاكمته، وعندما صدر الحكم عليه بالإعدام تمنيت ألا ينفذ فيه وهو فى تلك السن المتقدمة، وقد تدخل الكثيرون من أنحاء العالم، وفى مقدمتهم (بابا الفاتيكان)، فقد كان الرجل مسيحيًا كلدانيًا أو سريانيًا يترأس تحرير صحيفة (البعث)، ثم قذفت به المقاديرلكى يكون سندًا لديكتاتور (العراق) الذى لن أنسى أبدًا لحظة تنفيذ حكم الإعدام فيه وجسارته الفريدة وقدرته الخارقة. ولقد سعدت كثيرًا أن (طارق عزيز) قد قضى إلى رحاب ربه بموت طبيعى قبل أن يسبقه تنفيذ حكم الإعدام.. رحم الله الجميع، فكلنا بشر، والبشر دائمًا هو ابن الخطيئة!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 223
تاريخ النشر: 26 أبريل 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d9%84%d9%82%d9%8a%d8%aa-%d8%a7%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%8b-%d9%85%d9%86-%d8%b7%d8%a7%d8%b1%d9%82-%d8%b9%d8%b2%d9%8a%d8%b2/