أشعر أحيانًا بأننا قد تعودنا على موضوع «سد النهضة» كما أن أهميته فى العقل المصرى قد بدأت تتراجع وهنا مكمن الخطورة الأمر ليس بالبساطة التى تحول إليها الموضوع برمته، وأنا أعلم أن الأمر بيد رئيس البلاد وهى أيدٍ أمينة وواعية ولكن القلق ينتابنى من فعل عامل الزمن فى الأمر كله، إذ إن الوقت فى غير صالحنا، فبناء «السد» ماضٍ على قدم وساق والمفاوضات بشأنه ناجحة أحيانًا متعثرة دائمًا، لذلك فإن الأمر يحتاج إلى مراجعة عاجلة وقرارات حاسمة مع رؤية عادلة، فنحن لا ننكر على أشقائنا الإثيوبيين حقهم فى التنمية وعليهم أيضًا أن يسلموا بحقنا فى مياه «النهر» لأن أهمية مجراه متساوية من «المنبع» إلى «المصب» والعبث بجغرافيا الطبيعة يحتاج الى توافقً فى الرأى كلما اقتربنا من «المنبع» لأن ذلك يؤثر على دول أخرى خصوصًا «دولة المصب»، وهنا تجدر الإشارة إلى الملاحظات التالية:
أولًا: إن هاجس المياه بيننا وبين «الأحباش» تحديدًا ليس جديدًا وعندما وجه «محمد على» مؤسس الدولة الحديثة حملاته المتعاقبة تجاه «منابع النيل» كان يدرك أن الخطر يمكن أن يأتى ذات يوم من ذلك الاتجاه، وعندما كان «عبد الناصر» يدلل الإمبراطور « هيلاسلاسى» ـــ رغم الخلاف الفكرى والتفاوت العمرى بينهما ــ ذلك لأنه كان يدرك أن عرش «الأسد» فى «أديس أبابا» قد ورث مخاوف تاريخية وحساسيات دائمة تجاه «مصر» ولم يكن «عبد الناصر» حريصًا على علاقة طيبة بـ«الأحباش» بسبب ورقة «الأقباط» كما يزعم البعض لأن ذلك شأن داخلى وأمر وطنى لا يعنى إلا المصريين وحدهم مهما اختلفت دياناتهم أو تباينت معتقداتهم، وما كانت دعوة «عبد الناصر» لإمبراطور «إثيوبيا» للمشاركة فى وضع حجر أساس «الكاتدرائية المرقسية» فى «العباسية» توددًا دينيًا بقدر ما كانت احتواءً سياسيًا، لذلك فإن قضية «مياه النهر» مثارة منذ سنوات طويلة ولكنها لم تنفجر بشكل حاد إلا فى السنوات الأخيرة، وعندما وقع «زكريا محيى الدين» اتفاقية «مياه النيل» مع «السودان» عام 1959 بشأن حصص المياه فإن ذلك كان تحسبًا لما هو قادم خصوصًا مع الشروع فى بناء «السد العالى».
ثانيًا: إن «إثيوبيا» لا تقف وحدها فيما تمضى فيه حاليًا بل إن هناك من يؤازرها فى «إفريقيا» وخارجها وليست «الولايات المتحدة الأمريكية» وحلفاؤها الغربيون بعيدين عن ذلك، كما أننى أظن ـ وليس كل الظن إثمًا ـ أن «إسرائيل» لاعب رئيس فى هذا السياق ولعلنا نضع الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكى «باراك أوباما» لـ «إثيوبيا» بأنها تحتوى على إشارة إلى دعم «واشنطن» لـ«أديس أبابا» فى كافة توجهاتها بما فى ذلك قضية «سد النهضة» التى تحولت لدى «الإثيوبيين» إلى قضية وطنية ذات بعد شعبى لا يقارن إلا بالمشاعر المصرية عند بناء «السد العالى» ولكن الفارق بين الحالتين أن بناء «مصر» لـ«السد العالى» لم يكن ضارًا بغيرها لأنها «دولة مصب» بينما السد «الإثيوبى» يحمل احتمالات بضرر مباشر على حصة المياه المصرية إلى جانب مخاطر أخرى وذلك فارق جوهرى بين الحالتين لمن يحاول المقارنة بينهما دون وعى.
ثالثًا: لا أظن أن «الدولة العبرية» بعيدة عن قضايا المياه فى المنطقة بل هى التى وضعت فى شعار تأسيسها العبارة الشهيرة (دولتك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) وهى تبحث دائمًا عن موضع قدم فى «حوض نهر النيل» وقد أثار «بيجن» ذلك الأمر مع الرئيس الراحل «أنور السادات» فى مفاوضات السلام مع «مصر» ولكن الأمر كان مستحيلًا لأن «النهر» ملك لـ«دول الحوض» الذين جمعتهم الجغرافيا آلاف السنين، وقد ظلت إسرائيل تنفث سمومها فى الآذان الإفريقية قائلة لهم (إننا عشنا فى القرن العشرين عصر البترول العربى والثروة التى خرجت من الأرض والآن جاء دوركم لتستفيدوا من المنحة التى تهبط عليكم من السماء وهى المياه)! وحاولت «إسرائيل» دائمًا أن تزرع الشكوك لدى دول «حوض النهر» عند «المنبع» خصوصا «إثيوبيا» ثم فوجئنا بمتحدث رسمى إسرائيلى يعرض وساطة بلاده لحل أزمة «سد النهضة» فهم يريدون توقيعًا لهم على «وثائق النيل» بحيث يصبحون طرفًا فى خلافاته ومشكلاته ثم مزاياه وعوائده، إنه العقل «الصهيونى» التقليدى يطل علينا بين الحين والآخر، وتشير الأنباء إلى أن «إسرائيل» تقدم المعونة الفنية والخبرة التقنية فى بناء «سد النهضة» لا حبًا فى «إثيوبيا» ولكن لإضعاف الجارة الكبرى «مصر» وخلق المشكلات أمامها وشد انتباهها إلى الجنوب بدلًا من التفرغ للصراع العربى الإسرائيلى ومشكلات «الشرق الأوسط» فضلًا عن الحلم الإسرائيلى الدائم بالحصول على حصة من مياه النيل عبر «سيناء» وهو أمر دونه عقبات سياسية وقانونية وأمنية لا يمكن تجاوزها ولكنها «إسرائيل» التى لا تكل ولا تمل ولا تيأس!
رابعًا: تركت «القاهرة» ملف «مياه النيل» فى عصر الرئيس الأسبق «مبارك» فى أيدى الفنيين بوزراة الرى وكانت النتائج كما نشهدها الآن لأن القضية ليست فنية خالصة ولكنها سياسية بالدرجة الأولى، فالمناخ العام الذى يربط دول «حوض النيل» برباط الجوار الإفريقى والشراكة فى «مياه النهر» يمكن أن يكون مقدمة لحل النزاعات والوصول إلى وضع يرضى جميع الأطراف عند «المنبع» و«المجرى» و«المصب» ولكن التدخلات الأجنبية والحساسيات التاريخية يمارسان تأثيرًا سلبيًا على الأمر برمته، ومع ذلك تبقى القضية سياسية بالدرجة الأولى حتى أنه تردد أن إنشاءات «سد النهضة» تبدو أكبر بكثير من حاجة «إثيوبيا» للكهرباء وكان يمكن أن يستعاض عنه بسدود صغيرة لتوليدها ولكن الأهواء السياسية والمنافسات التاريخية لعبت دورها فى هذا الشأن، ولو أننا فكرنا فى شبكة تنموية تضم «مصر» و«السودان شماله وجنوبه» و«إثيوبيا» و«أوغندا» وغيرها من دول «حوض النهر» لتغير الأمر تمامًا وأصبحنا أمام مشهد مختلف بكل المعايير حتى تصبح قضية «مياه النهر» جزءًا من رؤية شاملة للدول الشريكة فى حوضه وربما نصل فى هذه الحالة إلى مكسب مشترك للجميع ودون أن يخسر أحد فى ظل أجواء من الصداقة الإفريقية وحسن الجوار مع النوايا الخالصة والرغبة فى التعايش المشترك ولا يمكن أن ننظر إلى قضية «مياه النهر» باعتبارها قضية موسمية تحل علينا أحيانا فى الأزمات ثم نغفلها فى الظروف العادية، ولقد فطن أشقاؤنا الأفارقة لتلك الظاهرة وبرزت أزمة ثقة وفجوة خلاف لابد من أخذهما فى الاعتبار.
خامسًا: ليس أمام «مصر» إلا خيار الدبلوماسية الذكية والدفوع القانونية لمواجهة الموقف الإثيوبى فى إطار من التفاوض المستمر الذى يقوم على أسس موضوعية ولا يكتفى بمحاولات شكلية لتلطيف الأجواء وترميم العلاقات إذ لابد من البحث فى الجذور والغوص فى أعماق المشكلات بدلًا من اللقاءات السطحية والابتسامات المتبادلة ونشر روح التفاؤل دون مبرر! لأن القضية أكبر من ذلك وأخطر، إنها قضية الشعوب، فالمياه هى الحياة والأمم تحارب لأمرين الأرض والماء، وعلى «مصر» أن تستعين بكل خبراتها وأن يستمع المسئولون فيها إلى وجهات نظر كل المتخصصين مهما اختلفت مع وجهة النظر الرسمية لأنها قضية الدولة المصرية بتاريخها العريق وليست قضية الحكومة المصرية بسياساتها العابرة.
هذه كلمات مخلصة نبغى بها تكوين رؤية صحيحة لأزمة «سد النهضة» التى لا يبدو عامل الزمن فيها مواتيًا لنا بل لابد من تحرك دولى سريع لدى المنظمات الدولية السياسية أو الاقتصادية فضلًا عن البنوك المانحة والبدء فى حوار مع القوى الكبرى بدءًا من «واشنطن» إلى «بكين» مرورًا بالعواصم الأوروبية ذات التأثير على أطراف الأزمة آملين أن يؤدى ذلك إلى توقف الدعاوى التاريخية «الإثيوبية» لأنهم قالوا لأطفالهم عبر السنين إن النهر خائن و«مصر» تسرق المياه وغير ذلك من أراجيف «الفولكور» الشعبى داخل المجتمع «الإثيوبي» وهنا نؤكد حرصنا الشديد على علاقات تاريخية متينة مع أشقائنا فى دول الحوض شريطة أن يبادلونا نفس الحرص، فالحياة مشتركة والنهر واحد ويكفى الجميع لأن كمية الهدر فى مياهه تزيد عشرات المرات على حجم الاستهلاك لدولة، إنها قضية سياسية بالدرجة الأولى!
جريدة الاهرام
1 سبتمبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/428686.aspx