تكمن الأزمة الحقيقية لنظم الحكم فى الدول التى تفتقر إلى «الديمقراطية» الصحيحة فى عدم القدرة على وضع الأنسب فى المكان الأفضل نتيجة تأثير الدوافع الشخصية والأحكام الهوائية والمؤثرات التى تخضع لعوامل لا تتصل بالكفاءة أو الخبرة، وفى ظنى أن هذه القضية هى واحدة من أخطر القضايا التى يواجهها بعض الدول ومنها «مصر» إذ أن العلاقة بين المناصب والكفاءات هى علاقة عكسية فى بلادنا بل إننا نشهد نماذج صارخة للحصول على المناصب والسيطرة على المواقع والاستحواذ على المقاعد دون سند حقيقى من التعليم والتدريب والمعرفة، والفارق بيننا وبين غيرنا ممن سبقونا على طريق التقدم أنهم أحسنوا الاختيار ولم يحاربوا الكفاءات ولم يستبعدوا أهل الخبرة وحرصوا دائمًا على اختيار نموذج «الحصان» فى أى وظيفة يتنافس فيها نموذجا «الحمار» و«الحصان» فاستقطبوا الذكاء واهتموا بالموهبة وربطوا ربطًا مباشرًا بين المنصب والكفاءة ولم يجعلوا للحظوة تأثيرًا فى الاختيار ولا عاملًا عند المفاضلة أمام التكليف المطلوب، ولا نتصور أبدًا أن العلاقة بين المناصب والكفاءات هى علاقة إدارية أو مالية ولكنها فى رأينا علاقة سياسية وقانونية فى المقام الأول، ولعلنا نطرح بهذه المناسبة ــــ عند دراسة هذه القضية المهمة ــــ الملاحظات الآتية:
أولًا: إن المؤسسة هى الأصل والفرد يتبعها وليس العكس، بينما يبدو الأمر فى بلادنا مختلفًا إذ تنسب المؤسسة إلى من يقف على قمتها ويطبعها بطابعه ويختمها بخاتمه ويكاد يكون هو صاحب القرار الأوحد فيها، يطيح بكل من يرى أنه يمكن أن يخلفه كما يسفه سابقيه ويمحو جهودهم ولو على حساب نجاح المؤسسة واستمرار حسن الأداء فيها إذ لا يعنيه إلا استمراره فى موقعه ولو بتجريف الكفاءات التى تليه مع الحرص على البقاء أطول فترة ممكنة دون النظر للصالح العام أو الحفاظ على عنصر الاستمرارية والدوام عند تغيير الأشخاص وتناوب القيادات، وما أكثر المؤسسات فى بلادنا التى رأيناها تتغير بتغير رؤسائها وتتحول فى اتجاه مختلف عند تغيير من يقودها، فلم تعد المؤسسة فى بلادنا كيانًا ذاتيًا يصنع الأفراد بل تحولت إلى كيان تابع يمضى وراء شخصية رئيسها أو مديرها أو صاحب القرار فيها، وفقدت هويتها وانقطع حبل التقاليد الوظيفية وتم خنق عشرات الكفاءات وإهمال مئات الخبرات وتجاهل عنصر الزمن بالتركيز على أهل الثقة على حساب ذوى الخبرة حتى أصبحت المؤسسة تنسب للفرد لا أن ينتسب الفرد إلى مؤسسته.
ثانيًا: إن قضية الاختيار للمناصب المختلفة من بين الكفاءات المطروحة هى قضية محورية يجب أن تقوم على أسس موضوعية ونزاهة وتجرد لازمين لمواصلة المسيرة إذ لا نتصور أبدًا أن تكون الأقدمية المطلقة هى بالضرورة عنصر الاختيار إلا فى حالة تساوى الكفاءات أو على الأقل تقاربها، كما أن التعليم والتدريب لازمان من أجل تأهيل المدير الناجح أو المسئول المتميز، والتعليم وحده لا يكفى فقد يحوز شخص أعلى الشهادات الدراسية وأرقى الدرجات العلمية ولكنه لا يملك الصفات القيادية التى تسمح له بأن يدير وأن يوجه وهذه نقطة بالغة الخطــورة إذ لا يجب أيضًا اتخاذ تميز العنصر الشخصى مبررًا للإطاحة ببعض الكفاءات التى لا تجيد تسويق ذاتها أو الترويج لتاريخها لأننا نلاحظ أحيانًا أن هناك حالات تخطى لكفاءات نادرة بدعوى وجود من هو أقوى فى الشخصية وربما كان صاحب الشخصية القوية لا يملك النزاهة المطلوبة ولا الشفافية المنتظرة ولا الرؤية الضرورية.
ثالثًا: إن التوظيف فى المواقع المختلفة يعتمد فى «علم الإدارة» على ما يمكن تسميته «التوصيف الوظيفى «Job Description» بحيث يحوز الفرد عند الاختيار نقاطًا محددة تعتمد على متطلبات موضوعة والتمييز بين الأشخاص المتقدمين للوظيفة وفقًا لتطابق أو تقارب كل منهم مع بنود «التوصيف الوظيفي»، ونحن بلد عريق فى «البيروقراطية» لأنه عرف «الدولة المركزية» فى طفولة التاريخ ومضى معها وبها عبر العصور ولعل تمثال «الكاتب المصرى» يمثل شخصية الموظف فى العصر «الفرعونى» والذى مازال ممتدًا عبر الأجيال حتى أيامنا هذه، إننا يجب ألا ننسى أننا نملك واحدًا من أقدم النظم الإدارية فى تاريخ الإنسان!
رابعًا: إن الصراعات الوظيفية والغيرة الشخصية تقفان فى مقدمة الأسباب التى تؤدى إلى الإطاحة بالخبرات وتجريف الكفاءات، إن «مجدى يعقوب» «جراح القلب العالمى» قد هجر وطنه لاستكمال دراسته بعدما حالت أسباب غير موضوعية دون توزيعه على القسم الطبى الذى يريده فى كليته والذى تفوق فيه فى الخارج وأصبح بحق جراح القلب الأشهر فى العقود الأخيرة، كما أن «جمال حمدان» «مؤرخ الجغرافيا» و«راهب العلم» قد اعتكف ربع قرن فى منزله يقرأ ويكتب متصوفًا فى محراب المعرفة كرد فعل لتخطيه فى الدرجة الجامعية التى يستحقها ومنحها لغيره لأسباب لا علاقة لها بالكفاءة العلمية أو المكانة الفكرية، إن الإطاحة بالخبرات وتجريف الكفاءات هى المؤشر المؤلم فى حياتنا الإدارية وهى دليل على تغليب الدوافع الشخصية على الأسباب الموضوعية كما أنها تعصف بالقدرات والمواهب وتفتح الباب للإحباط الذى قد يصل إلى حد الثورة!
خامسًا: إن هناك قضية ذات حساسية خاصة وهى مرتبطة بما يمكن تسميته بنظرية «الاختيار العكسي» التى تتلخص فى تفصيل المناصب وفقًا للأشخاص، ولقد عرفنا فى تاريخنا محاولات لتمييز بعض الأفراد فصنعنا لهم مؤسسات وهمية وأنفقنا أموالًا لا مبرر لها من أجل إيجاد مناصب كبرى يحوزها بعض أصحاب الحظوة وحملة المباخر ومرددى الأناشيد وهم فى خدمة ولى الأمر فى كل العهود دون تفرقة أو توقف، فنجد أنه بينما تحتاج الوظيفة لمن يشغلها نجد أن المحظوظين هم الذين ينتظرون الوظائف التى يتم ترتيبها لهم بحكم الحسب أو النسب أو مراكز القوى فى الدولة عمومًا.
إنه لا ينشر الإحباط ويمزق نفسية الشباب إلا ذلك الذى يشهدونه من أخطاء تصل إلى حد الخطيئة عند توزيع المناصب واختيار الكفاءات، وإذا كان البعض يتساءل لماذا يبدو الشباب المصرى أحيانًا بعيدًا عن دائرة الضوء السياسى والدور الوطني؟ فالإجابة أنه بسبب فقدان الثقة فيمن حوله وتراكم الإحباطات فوقه وشعوره بانعدام تكافؤ الفرص وشيوع المحسوبية والمحاباة وتجاهل التأهيل العلمى والتدريب العملى والنزاهة الشخصية والالتزام الوظيفى .. إنها قضية خطيرة لو تعلمون، كما أن نتائجها كبيرة لو تدركون!
جريدة الاهرام
15 سبتمبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/433295.aspx