هو ذلك الضابط المصرى الذى عرف عنه زملاؤه استقامة خلقه وشجاعة مواقفه وغزير ثقافته، كان رئيسًا للمخابرات العامة المصرية فى فترة حالكة السواد بعد هزيمة يونيو 1967 واكتشاف القيادة السياسية أن الجهاز الوطنى الضخم قد انحرف عن مساره وقتها، وأصبح أداة فى أيدى بعض مراكز القوى.
وقد أصلح الرجل ذلك الجهاز الذى تعتز به «مصر» وأعاده إلى مساره الصحيح، لذلك جرى تعيينه بعد ذلك «وزيرًا للحربية»، فكان نموذجًا للانضباط العسكرى والرؤية الصائبة، وما زلنا نتذكر ذلك الحوار الصحفى الحاد الذى بدأه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رئيس مجلس إدارة وتحرير «الأهرام» حينذاك، متهمًا السيد «أمين هويدى»، رئيس المخابرات العامة المصرية بقصور النظرة، لأنه اعترض على إعطاء بيانات عن استهلاك بعض السلع، منها «علب الصلصة» و«برطمانات المربى»
وظل «هيكل» يخاطبه فى الصحيفة باسم «أمين حامد هويدى»، إيحاءً بأن الناس لا تعرفه جيدًا وفى محاولة من «هيكل» لإثبات أن روح العصر لم تعد تحتمل ذلك النمط من التفكير الاستخباراتى وأن الأمن القومى لا يقبع فى عدد البرطمانات أو إحصائيات العلب الغذائية، فإن السيد «أمين هويدى» تمسك بموقفه على اعتبار أننا كنَّا فى حالة حرب فى أعقاب هزيمة «يونيو 67» ويمكن «لإسرائيل» أن تستفيد بأى معلومة حتى ولو كانت تبدو غير مهمة، فهى ترصد الداخل المصرى من كل جوانبه، بما فى ذلك معدلات الاستهلاك اليومى للشعب المصرى من مختلف السلع حتى إعلانات الوفيات فى الصحف. وللسيد «أمين هويدى» تاريخ طويل مع الدبلوماسية المصرية، فبعد أن كان ملحقًا عسكريًا فى «المغرب» تم اختياره سفيرًا لمصر فى «بغداد» فى فترة من أشد فترات «العراق» أهمية وتطورًا بعد سقوط الملكية ووصول «عبد الكريم قاسم» إلى السلطة ومن بعده «عبدالسلام عارف» ثم شقيقه «عبدالرحمن»، فلقد تكونت فى السفارة المصرية فى تلك السنوات مدرسة ناجحة فى الدبلوماسية العربية بفضل السيد «أمين هويدى» واتصالاته ومازلنا نذكر من رموزها أسماء، مثل الدبلوماسيين المرموقين «إبراهيم يسرى» و«سيد أبوزيد عمر» و«عادل شرف الدين» و«أمين يسرى» و«فخرى عثمان» و«محمد غانم» وغيرهم ممن قد لا تسعفنى الذاكرة بأسمائهم، فقد ارتبط هؤلاء جميعًا ارتباطًا قويًا، أقرب إلى ارتباط التلاميذ بالأستاذ، بسفيرهم المفكر والضابط والدبلوماسى «أمين هويدى»
ولقد جمعتنى الظروف كثيرًا بذلك الرجل العظيم وامتدت علاقتنا لسنوات طويلة منذ أن اتصل بى ذات يوم شاكيًا تجميد توزيع كتابه الشهير «الفرص الضائعة» حتى استقبله الرئيس «مبارك» وكرمه بكلمات طيبة، وأمر برفع الحظر عن كتابه، بل طلب أن يكتب «أمين هويدى» مقالاً أسبوعيًا فى «الأهرام» أكبر الصحف المصرية، حتى تستفيد الأجيال الجديدة من أفكاره وثقافته ورؤيته وتاريخه المشرف، وأتذكر أننا دعينا- السيد «أمين هويدى» وأنا- للتحدث فى ندوة سياسية كبرى، ورأيت أن منظمى الندوة قد وضعونى كمتحدث أول ولم أسترح لذلك، لأننى أعرف قيمة الرجل ومكانته وتاريخه، فحرصت على أن أقول، وهذا صحيح، إن البروتوكول الحديث يبدأ بالمتحدث الأقل شأناً ثم يليه الأكثر أهمية، فهو تصاعدى وليس تنازليًا، ورأيت لحظتها علامات الارتياح والامتنان على وجه رجلٍ أحبه وأعرف قيمته. وقد ظل السيد «أمين هويدى» يواصل القراءة والكتابة والتأليف حتى بلغ من العمر عتيًا، كما ظل يقاوم المرض فى كبرياء لا يشكو، وفى صبر المؤمنين الذين يعرفون فلسفة الحياة الحقيقية، خصوصًا بعد رحيل شريكة عمره ورفيقة حياته.
.. رحم الله «أمين هويدى» علامة مضيئة فى تاريخنا العسكرى، ورمزًا راقيًا فى تاريخنا الدبلوماسى، وشخصية صلبة نزهو بها فى تاريخنا الفكرى والثقافى.
جريدة المصري اليوم
23 ديسمبر 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/50838