عتب على بعض الأصدقاء وفى مقدمتهم الكاتب الكبير الأستاذ «صلاح منتصر» و«د.كمال مغيث» أننى أركز على الجوانب الإيجابية المضيئة وأتحاشى الإشارة إلى النقاط السلبية فى حياة من أكتب عنهم خصوصاً إذا كانوا أمواتاً (واذكروا محاسن موتاكم) وواقع الأمر أننى لا أكتب سيرة ذاتية ولا ألتزم بالسياق التاريخى للشخصية فأنا أكتب عمن عرفت مباشرة ومن تعاملت معهم فى حياتي، وأميز لقطات هى أقرب إلى «البورتريه» السياسى أو «الكاريكاتير» الإنسانى وأختار شخوصى خليطاً من البشر من مختلف التخصصات والاتجاهات والعقائد والديانات والأعراق والجنسيات، فأنا أريد أن أشيع روح الثقة والتفاؤل فى ظل مناخ الإحباط الذى يسيطر على الأجيال الجديدة والذى توارت عنه القدوة واختفت منه بعض القيم وتاهت عنه المثل والتقاليد، لذلك قد يدهش البعض كيف لى أن أكتب اليوم عن ذلك المخرج السينمائى الذى رحل عن عالمنا فى سن مبكرة تاركًا وراءه رصيدًا رائعًا من الأفلام التى تحتل مرتبة متقدمة فى تاريخ السينما المصرية، ولكن الدهشة تزول عندما يعلم البعض أن لى صلة بعدد كبير من المخرجين بدءًا من «يوسف شاهين» مرورًا بـ«عاطف الطيب» وصولاً إلى «خالد يوسف» و«يسرى نصر الله» إلى جانب أسماء أخرى لامعة مثل «داود عبد السيد» و«سمير سيف» و«إيناس الدغيدى» و«ساندرا نشأت» وتلك عينة ممن جمعتنى بهم ظروف الحياة فى مناسبات مختلفة، كما أننى عكفت دائمًا على قراءة ما يكتبه النقاد السينمائيون خصوصًا الصديقين «سمير فريد» و«طارق الشناوى»، أما قصتى مع «عاطف الطيب» الذى قضى قبل الأوان وانسحب من الحياة كما ينسحب الفارس من حلبة السباق وهو فى أوج انتصاره- فتبدأ عندما جاء إلى «الهند» ومعه الكاتب السيناريست «بشير الديك» ليحضرا عرض فيلم «سواق الأتوبيس» فى مهرجان «السينما الهندية» وكان ذلك فى مطلع ثمانينيات القرن العشرين حين كنت مستشارًا للسفارة المصرية فى «نيودلهى» وقد سعدت بصحبتهما لعدة أيام كما انبهرت كثيرًا بذلك الفيلم الذى أراه واحدًا من نقاط التحول فى تاريخ السينما المصرية التى احتفلنا بمئويتها منذ عدة سنوات، ولقد أبدى الهنود وقتها إعجابهم الشديد بالفيلم ومخرجه وأبطاله وظلت أصداء عرضه فى العاصمة الهندية تتردد لعدة شهور بعدها رغم أن الهنود يملكون أكبر تجربة سينمائية رائدة فى القارة الآسيوية كلها وهم الذين أقاموا مدينتهم السينمائية «بوليوود» لكى تكون منافسًا لعاصمة السينما الأمريكية «هوليوود»، ولقد شدنى إلى «عاطف الطيب» ورفيقه دماثة الخلق الفطرية واتزان الشخصية، كذلك فإن «عاطف الطيب» كان يتصف أيضًا بدرجة عالية من الذكاء والقدرة على فهم الأشخاص وإقامة جسور التواصل معهم، ولقد زارنى ذلك الوفد السينمائى فى بيتى، والبيوت فى الهند كبيرة خصوصًا فى «دلهى الجديدة» حيث المبانى أفقية رحبة وليست رأسية ضيقة وقد كانت سعادتى بلقاء «عاطف الطيب» والتعرف عليه بالغة وقد استمرت حتى رحيله لأنه مضى من حياتنا سريعًا كالبرق الخاطف أو الشهاب المحترق، ولقد أسعدنى كثيرًا بعد عودتى من «الهند» أن أكتشف أن اسمه كبير وأن سمعته فى كل مكان كما أسعدنى أيضًا أن أرى الكل ينظر إليه باعتباره علامة مضيئة فى تاريخ الإخراج السينمائى ومحطاته الرائعة بدءًا من «كمال سليم» صاحب «العزيمة» و«يوسف شاهين» صاحب «باب الحديد»، ثم «عاطف الطيب» الذى أخرج من الأفلام ما لا يزيد كثيرًا عن أصابع اليدين ولكنه تمكن من وضع اسمه بين الشوامخ فى تاريخ الفن المصرى المعاصر، وأنا أظن مخلصًا أن الإخراج السينمائى هو واحد من أصعب المسؤوليات التى تحتاج ثقافة أفقية وعمقًا فكريًا فى ذات الوقت وفهمًا للنفس البشرية وقدرة على قيادة الأفراد وتحريك المجموعات بما يخدم الخط الدرامى للعمل الفنى.
ولقد كان «عاطف الطيب» متألقًا منذ صدر شبابه وبداية دراسته الأكاديمية وتأكدت موهبته مع مرور الأيام إلى أن نعاه الناعى على غير توقع فبكيناه جميعًا لأن موهبة رائعة قد انصرفت من عالمنا ولكنها تركت بصماتٍ لا تمحوها الأيام ولا تنال منها الأعوام.. رحم الله «عاطف الطيب» وهو فى استراحة الخلود.
جريدة المصري اليوم
14 أكتوبر 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/198426