فى يوم من أيام شتاء 1978- وكنت مشرفاً على البحوث والدراسات فى «المعهد الدبلوماسى» التابع لوزارة الخارجية- استدعانى السفير «إبراهيم صبرى» مدير المعهد، وهو حفيد غير مباشر للزعيم «مصطفى كامل» كما كان واحداً من أقوى السفراء فى تاريخ الخارجية المصرية خصوصًا عندما تولى إدارة الأبحاث فى الوزارة مع نهاية خمسينيات القرن الماضى، حيث كان «د.أسامة الباز» هو مساعده وذراعه اليمنى وقد عمل السفير «إبراهيم صبرى» بعد ذلك فى «اليونان» و«لبنان» وكان معروفاً بنفوذه الكبير واتصالاته الواسعة.
لقد استدعانى إلى مكتبه فى ذلك الصباح فوجدت لديه رجل دين شيعيا طويل القامة ضخم الجثة بهى الطلعة، بلحيته وشاربه، وقال لى هذا هو الإمام «موسى الصدر» هل تعرفه؟ فقلت له سيدى السفير إننى أسمع عنه ولكنى لا أعرفه شخصياً، وصافحت الإمام بكل احترام وجلست على مقعد جانبى أتابع حديثهما الذى شاركت فيه على استحياء، وقد سألنى الإمام هل زرت لبنان قريباً؟
فأجبته يا صاحب السماحة إن الأمر متعذر فى ظل الحرب الأهلية الدائرة هناك، وقد تدخل السفير «إبراهيم صبرى» فى الحديث قائلاً إن السكرتير أول «د.مصطفى الفقى» حاصلٌ على الدكتوراه من جامعة لندن فى موضوع يتركز حول الدور السياسى للأقباط، فأظهر الإمام علامات الاهتمام ودار بيننا حديث حول الأقليات العددية فى العالم العربى وأهمية التعايش المشترك بين أهل الديانات المختلفة والطوائف المتعددة. وقد شعرت أن للإمام هيبة كبيرة وملامح حادة ونظرات «راسبوتينية» نافذة، وقد خرج الإمام والسفير يومها إلى بعض المقابلات مع المسؤلون فى الحكومة المصرية، خصوصاً أن الرجلين كانت تجمعهما صداقة قوية، كما بدا لى ذلك من حديثهما المتبادل، ومرت الأيام واختفى الإمام الشيعى الكبير والزعيم الروحى للجنوب اللبنانى فى ظروف غامضة بعد زيارة للعاصمة الليبية وجرى تراشق طويل بين السياسيين الشيعة والحكومة الليبية، ودخل على خط الاتهامات المتبادلة رموز الحرب الأهلية اللبنانية وقادتها الكبار، بينما أكد الجانب الليبى أن الإمام ومرافقيه قد غادروا الأراضى الليبية إلى «إيطاليا» ولا علم لهم بما جرى له بعد ذلك ولم تكن الإجابة شافية للجانب اللبنانى أو مريدى الإمام بين الشيعة فى العالم الإسلامى، حتى إن التمثيل اللبنانى فى قمة «سرت» الأخيرة قد توقف عند مستوى المندوب الدائم فى الجامعة العربية كرسالة لبنانية بأن الجرح مازال ينزف وأن الملف مازال مفتوحاً، وأن الرواية لم تتم فصولاً، وقد دارت الأيام وجرى انتخابى نائباً لرئيس البرلمان العربى وكلفتنى الرئيسة الحالية الدكتورة «هدى بن عامر» وهى سياسية وبرلمانية من ليبيا أن أتصل بالأستاذ « نبيه برى» رئيس البرلمان اللبنانى – وهو شخصية مرموقة أعتز بصلتى به دائماً - لكى أطلب منه أن يستقبل وفدًا من البرلمان العربى لاسترضاء الدولة اللبنانية الشقيقة حتى يعود ممثلوها الأربعة فى البرلمان العربى إلى حضور اجتماعاته من جديد وقد توقفوا عن ذلك منذ انتخاب السيدة الليبية رئيسة له وقد أجابنى الأستاذ «نبيه برى» بحصافته المعروفة وبديهته الحاضرة قائلاً: يا أخ مصطفى الأمر ليس بيدى إنها مشاعر شعب بأكمله فنحن لم ولن ننسى مأساة نهاية الإمام الراحل «موسى الصدر»،
وقد عبرت عن أسفى الشديد لذلك خصوصاً أن رئيسة البرلمان العربى – وهى شخصية ليبية لها وزنها - قد عرضت الذهاب بنفسها إلى البرلمان اللبنانى لإقناع رئيسه بعودة نوابه إلى تلك المؤسسة النيابية العربية.. وهكذا بدت لى تلك المناسبة التى رأيت فيها الإمام الراحل قبل اختفائه بفترة وجيزة وكأنها بداية شريط سينمائى أشهد بعد ذلك جزءاً من أحداثه وبعضاً من تداعياته.
رحم الله الإمام الغائب الذى تختلط فيه الدماء الفارسية بالروح العربية، والذى يمثل للشيعة رمزاً وللمسلمين داعية قضت عليه السياسة ودهاليزها الغامضة.
جريدة المصري اليوم
9 سبتمبر 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/190316