فى نهاية عام 1989 عاد العرب لـ(مصر)، وعادت هى إليهم (واسطة العقد)، بعد قطيعة دبلوماسية استمرَّت عشر سنوات كاملة، واستقرَّت (جامعة الدول العربية) فى موقعها الأصلى -كما نصَّ عليه ميثاقها- بعد غيبةٍ طويلةٍ فى مقرِّها بـ(تونس).. ورأى الرئيس الأسبق مبارك أن يقوم بزيارة لعدد من الدول العربية يبدأها بجولة خليجية نستهلُّها بـ(المملكة العربية السعودية) لأداء العُمرة، ثم نختمها بزيارة رسمية للمملكة فى نهاية زيارة الدول الخليجية الخمس الأخرى.
ووصلنا إلى (جدة)، وكان الترحيب زائدًا؛ لأن (مصر) قد عادت إلى أحضان أُمَّتها العربية، فقرر خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل (فهد بن عبدالعزيز) فتح (الكعبة المُشرَّفة) استثنائيًّا لـ الرئيس المصرى ومُرافقيه، وبدأنا إجراءات أداء العُمرة مع الرئيس الأسبق (مبارك)، ودخلنا الكعبة، وراعَنى شخصيًّا بساطتها وضعف الإضاءة فيها على نحو يؤدِّى إلى نوع من الجلال والخشوع بصورة غير مسبوقة.
فقلت له: (يا سيادة الرئيس، هذا هو الإسلام الذى يُساوى بين الجميع بلا تفرقة)، فقال لى: (أنا أعلمُ ذلك، ولا داعى للفلسفة هنا!)
وقد صلَّينا فى أركانها الأربعة، ورأيت (حسنى مبارك) يقفُ منتظرًا حتى ينتهى الحاج (علوانى) -سُفرجى الرئيس- من الصلاة فى أحد الأركان ليؤدِّى الرئيس المصرى الصلاة فى ذلك الركن، فقلت له: (يا سيادة الرئيس، هذا هو الإسلام الذى يُساوى بين الجميع بلا تفرقة)، فقال لى: (أنا أعلمُ ذلك، ولا داعى للفلسفة هنا!)، وابتسمنا صامتين، ثم انخرطنا فى متابعة أركان العُمرة بالطواف والسعى يُرافقنا أمير سعودى كبير هو رئيس بعثة الشرف المُرافقة لرئيس (مصر).
ثم اتَّجهنا إلى (المدينة المنورة) لزيارة (الروضة الشريفة) وقبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وانخرط بعضنا فى البكاء بسبب جلال المكان وهيبته. وسألنى مُصوِّر الرئيس (فاروق إبراهيم)، رحمه الله: (لماذا لم تبكِ يا دكتور؟)، فقلت له: (إن البُكاء على قدر الذنوب التى اقترفها الشخص! والحمد لله رب العالمين).
ثم اتَّجهنا بعد ذلك إلى استراحة كبيرة تطل على الحرم، وأدَّينا صلاة المغرب، ووجدنا الإعلامى الراحل (أحمد فراج) وكأنما هو ينتظرنا هناك، وهو معروف بخلفيته الدينية الواسعة وثقافته الإسلامية المشهودة، فأمسك بيد الرئيس، ونحن جلوس، وظل يتلو دعاءً طويلاً استغرق خمس عشرة دقيقة، والرئيس المصرى يُردِّد وراءه، ونحن معه، وشعرنا من خلال ذلك الدعاء براحة نفسية وسعادة روحية لم نكن نتوقعها.
وقد لاحظتُ استجابة الرئيس (مبارك) تمامًا للداعية والدعاء، فكانت العبارات جميلةً، والدعوات صادقةً، والكلمات تصدر من القلب مباشرةً إلى الله -سبحانه وتعالى- ولقد لفت نظرى بعد الدعاء وانتهاء الصلاة أن سألنى الرئيس: (إن السفير المصرى فى المملكة قد أدَّى معنا العُمرة كاملةً، فلماذا لم يجعل تركيزه علينا ويؤدِّى العُمرة فى أى وقت آخر، خصوصًا أنه مقيم فى المملكة؟!)، فقلت له: (يا سيادة الرئيس، إن مقره فى «الرياض»، وأداء الشعائر والمناسك مرتبط بـ«مكة» و«المدينة» التى يسعد بها أعضاء القنصلية المصرية فى «جدة»، وليس أعضاء السفارة فى العاصمة السعودية).
ولقد لاحظتُ أن السفير (سيد المصرى) -وهو رجل صالح، وسفير مرموق، ومثقف متميز- كان مُنخرطًا فى الشعائر والصلوات والدعوات، ولا يعنيه الرئيس أو من معه، ونظرًا لأننى أعرف خلفيته العائلية العريقة من (صعيد مصر) وتديُّنه الصادق، فإننى كنت أغبطه على هذا التصرُّف الجادِّ الذى يبتغى به وجه الله دون وجه الحاكم مهما كانت التداعيات المُحتملة!
إننى أتذكَّر ذلك تسجيلاً لوقائع العُمرة الرئاسية التى شاركتُ فيها بمناسبة عودة العلاقات المصرية-العربية إلى سابق عهدها، وقد أقلعنا من (جدة) إلى باقى دول الخليج، ثم ختمنا الزيارة فى (الرياض) عائدين منها إلى الوطن.
مجلة 7 أيام
17 مارس 2017
https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%b1%d8%af%d9%91%d9%8e%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d9%85%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%b9%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%b1%d8%a7/