كلما نظرت إلى النيل العظيم تذكرته، وكلما جرى فتح ملف «دول الحوض» أستعيد آراءه وأفكاره، وعندما بدأنا مشروع «توشكى» تابعت باهتمام أقواله وانتقاداته حول المشروع، وعندما جلست على مقعد رئيس «لجنة العلاقات الخارجية» فى مجلس الشعب كان حاضرًا أمامى دائماً لأنه كان رئيسًا لتلك اللجنة، إنه «د.رشدى سعيد» الذى إذا تحدث أنصتنا، وإذا كتب قرأنا، وإذا جادل تابعنا باهتمام، وعلى الرغم من أن الرجل يقضى معظم شهور السنة فى العاصمة الأمريكية إلا أن الوطن المصرى قائم فى عقله وضميره ووجدانه فهو معنىٌّ بمشكلات مصر ومعاناة المواطن فيها وطريق المستقبل أمامها، ولقد كان آخر لقاء بيننا على عشاء فى مناسبة اجتماعية فى «القاهرة» بدعوة من صديق مشترك فوجدته كالعهد به متألقاً فكرياً، متقداً ذهنياً، متوهجاً عقلياً رغم ظروفه الصحية بحكم العمر ووقر السنين، فهو قيمة كبيرة فى حياتنا لأنه واحد من أكبر خبراء العالم فى تخصصه العلمى وخبرته الواسعة، كما أنه مزيج من المفكر والعالم فى وقتٍ واحد، ولقد كان له انتماؤه السياسى الذى لا يخفيه وارتباطه بالعصر الناصرى الذى يعتز به.
وأتذكر أنه قال لى فى آخر لقاء بيننا إن المستويات العلمية لأبنائنا الدارسين فى الخارج قد تدهورت هى الأخرى كغيرها، وأتذكر أيضا أنه قال لى ليلتها إن جيل «د.عبدالمنعم سعيد»- رئيس مجلس إدارة «الأهرام» حالياً- هو آخر الأجيال التى حظيت بالقدر الراقى من التعليم الأمريكى. وجرت بيننا مناقشات واسعة نطوف فيها بين قضايا الزراعة والرى، التعليم والثقافة، الوحدة الوطنية والإصلاح السياسى، هموم الوطن وأحلام أبنائه، فالرجل موسوعى الرؤية، واسع الأفق، عميق النظرة، وعندما دعيت منذ سنوات قليلة من الجاليات المصرية فى «واشنطن» و«نيويورك» و«مونتريال» لإلقاء محاضرة عامة عن مصر الداخل والخارج، شرفنى «د.رشدى سعيد» بحضور محاضرة «واشنطن» وأسهم فى النقاش على نحو أثرى الحوار ورفع من قدرى شخصياً، وعلقت على ذلك فى محاضرتى باليوم التالى فى «نيويورك» كما كان انبهارى شديدًا بالمستوى العلمى للمصريين فى «مونتريال» فى اليوم الثالث لذلك اللقاء المتصل الذى لا أنساه بسبب حواراته العميقة والآراء الجديدة التى جرى طرحها من جانب أبناء مصر خارج الوطن، ولكن ظل «د.رشدى سعيد» هو محور الاهتمام ومعه قلة نادرة من أبناء مصر الشوامخ، ولعلى أذكر هنا بهذه المناسبة الصديق المحامى «سعد الفيشاوى» المقيم فى «واشنطن» منذ عشرات السنين، ولا أنسى ما بلغنى عن عمق الحوار الوطنى بينه وبين الدكتور «رشدى سعيد» خصوصاً إذا انضم إليهما صديق عزيز آخر هو السفير «شكرى فؤاد» الذى كان يتردد على العاصمة الأمريكية بانتظام فى سنوات التقاعد لزيارة ابنته الوحيدة التى تعمل فى وظيفة مرموقة فى «صندوق النقد» ثم «البنك الدولى» فى فترتين مختلفتين.
إن «رشدى سعيد» ذلك الخبير المصرى المتفرد، والعالم الفذ صاحب النظرة العلمية والرؤية السياسية فى ذات الوقت، هو نموذج مشرف يعتز به المصريون- مسلمين وأقباطاً- لأنه نبت هذه الأرض الطيبة وغرس هذا الوطن العظيم.
جريدة المصري اليوم
5 أغسطس 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/217665