هو ذلك الدبلوماسى الأمريكى السابق الذى يراه الكثيرون كرجل المهام الصعبة، فقد عمل سفيراً لبلاده فى «أفغانستان» و«العراق» ومندوباً دائماً لها لدى الأمم المتحدة ومشرفاً على الوكالة الأمريكية المركزية للاستخبارات ونائباً لوزيرة الخارجية «كوندوليزا رايس» فى عهد الجمهوريين، ولقد كنت أظن من اسمه أنه إيطالى الأصل إلى أن التقيت به وتعرفت عليه وتحدثت مرات معه، وعلمت منه أنه من أصل «يونانى» شأن كل الأمريكيين الذين تعود أصولهم إلى دول أوروبية أو أفريقية أو شرق أوسطية أو آسيوية، ومازلت أتذكر حديثى معه ذات مرة منذ عدة سنوات فى العاصمة الأمريكية، وقد كان معنياً يومها بمفردات الصراع العربى الإسرائيلى وتطورات المشكلة الفلسطينية ومستقبل قطاع «غزة»، وأتذكر أنه سألنى ألم تكن مصر مسؤولة عن القطاع فى فترة من تاريخ القضية الفلسطينية؟
وقد أجبته بأن ذلك كان حكماً إدارياً لعدة سنوات انتهى بحرب 1967، وظننت يومها أن لسؤاله مغزاه فى ظل التطورات التى جرت فى الأرض المحتلة بعد ذلك، ولقد التقيت به آخر مرة فى صيف عام 2009 فى بهو الفندق، الذى كنت أقيم فيه «بواشنطن»، وكنت خارجاً لتوى من لقاء مع وزير خارجية العراق الصديق «هوشيار زيبارى»، الذى كان يزور العاصمة الأمريكية مع رئيس وزراء بلاده حينذاك السيد «نورى المالكى»، وقد ذكر لى «نجروبونتى» يومها أنه قد ترك العمل الدبلوماسى والسياسى بانتهاء حكم الجمهوريين، وأنه قد أصبح يعمل فى مجال رجال الأعمال، وأنه سوف يلتقى الضيف العراقى من منطلق مختلف يتماشى مع عمله الجديد، ويختلف عن مسؤولياته السابقة، ورأيت «نجروبونتى» يومها «بصلعته» الشهيرة، وهو أكثر هدوءاً وارتياحاً بعد أن تخفف من أعبائه السابقة ومسؤولياته الكبيرة، وقلت لنفسى لماذا لا يوجد فى بلادنا ذلك النمط من الانتقال بين المهن والمؤسسات؟
فذلك يغذى الدولة بالخبرات وتبادل التجارب ويؤدى إلى تطعيم قطاع معين بكفاءات تميزت فى قطاع آخر، فمن الطبيعى فى «الولايات المتحدة الأمريكية» وفى أوروبا أيضاً أن تجد دبلوماسياً سابقاً قد أصبح أستاذاً جامعياً، أو أن عسكرياً متقاعداً قد أصبح سياسياً لامعاً أو أن مسؤولاً كبيراً قد تحول إلى قطاع الأعمال الخاص، ولم يعد معنياً بمسؤولياته السابقة، وأنا ممن يظنون أن تطعيم وظيفتى «محافظ» و«سفير» بنسبة محدودة من الكوادر القادمة من قطاعات مختلفة هو أمر لا بأس به إذ يثرى التجربة ويفتح آفاقاً جديدة لم تكن متاحة من قبل، وأعود مرة أخرى إلى ذلك الدبلوماسى الذى كان إسهامه فى خدمة بلاده أمراً لا يخفى على أحد، وهو يمثل ذلك النمط التقليدى المتحفظ فى المعاملات الدبلوماسية الذى كان يقول أقل مما يعرف ويعرف أكثر مما يفصح عنه، ثم يوظف ذلك كله فى قرب نهاية حياته العملية الحرة بعيداً عن الرئاسات والتعليمات والمسؤوليات، ولاشك أن دبلوماسياً كبيراً مثل «نجروبونتى» لو أراد أن يكتب مذكراته بين «كابول» و«بغداد» و«نيويورك» و«واشنطن»، فإن الأمر قد يستغرق منه مساحة زمنية طويلة يشرح فيها أبعاد السياسة الخارجية الأمريكية بكل تعقيداتها وطموحاتها ومواقفها الملتبسة فى كثير من الأحيان، إن «نجروبونتى» نموذج يجسد العقل الغربى بكل تجلياته، كما أن روحه البحر متوسطية بحكم أصوله اليونانية تجعله أحياناً أكثر قدرة على فهم منطقتنا، ودراسة السلوك السياسى لدولنا أمام أقوى دولة فى العالم المعاصر اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً وهى التى تمثل القوة العظمى رغم أخطائها وتجاوزاتها ورغبتها فى الهيمنة، وقدرتها على التورط فى الحروب عبر العقود الأخيرة.
جريدة المصري اليوم
3 يونيو 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/208088