إنه ذلك الفنان صاحب الشعبية الواسعة والشخصية المتميزة والصوت الفريد، إنه ابن محافظة «البحيرة» الذى دخل مجال الفن واحترف الغناء منذ سنوات عمره الباكر معتمداً على موهبة فطرية وصوت عذب واستقامة فى الخلق ميزته من بدايات عمره حتى ساعة رحيله، ولا أنسى يوم أن دق تليفون منزلى فى مطلع تسعينيات القرن الماضى فإذا هو صوت ذلك الفنان الكبير يتحدث إليَّ فى أبوة حانية ولهجة راقية طالباً المشاركة بالغناء فى حفل زواج ابنتى– خروجاً عن المألوف فى سيرته الطويلة ورغم الطلب الزائد عليه والاحترام الكبير لفنه – قائلاً إنه قد غنى وهو شاب صغير فى زفاف «أبى» مع مطربة محلية قديمة هى «الشيخة حجر» وذلك عام 1940 وهو يريد أن يغنى فى زفاف الحفيدة كما غنى فى فرح جدها قبل أكثر من نصف قرن، ولابد أن أعترف أن همزة الوصل التى كانت بينى وبينه فى سنوات عمره الأخيرة هى ابنه الدبلوماسى اللامع والسفير المرموق «د. محمود كارم» الذى يشغل حالياً منصب الأمين العام للمجلس القومى لحقوق الإنسان بعد أن كان سفيراً لمصر فى «طوكيو» و«بروكسل» على التوالى، وقد رباه والده هو وشقيقته أفضل تربية ووفر لهما أعلى درجات التعليم لأن ذلك الفنان الراحل قد عزل أسرته تماماً عن الوسط الفنى ولم ينغمس فيه ولم يتهم يوماً بنزواته، ذلك أنه قد اقترن بسيدة فاضلة تنتمى إلى عائلة عريقة يصل نسبها المباشر إلى أحد رؤساء الحكومة المصرية قبل ثورة يوليو، وحرص الرجل دائماً على أن تكون حياته الأسرية بعيدة عن الأضواء مهتمة بالتعليم الراقى والتربية الرفيعة وتلك رؤية مبكرة من فنان كبير وخروج عن المألوف فى عصره، ولم تتوقف شهرة «كارم محمود» على الوطن المصرى وحده بل إن شهرته قد تجاوزت الحدود وأصبح له ملايين المعجبين فى المشرق العربى والمغرب العربى على حد سواء.
ولقد لاحظت من زياراتى لدول «الشام» أن صوت «كارم محمود» قابع فى ذاكرتهم مؤثر فى وجدانهم يتذكرون روائعه ويتذوقون أغانيه حتى الآن وهى تلك التى اتسمت بالعذوبة والشعبية ونقاء الصوت وحلاوة الغناء، ولقد ورث الابن عن أبيه دماثة فى الخلق وهدوءاً فى الطباع، وأنا أزعم أنه من أفضل من يتحدثون الإنجليزية بين دبلوماسيينا المعاصرين، ولقد اقتربت منه كثيراً عندما كان يأتينى سنوياً وأنا سفير لبلادى فى العاصمة «النمساوية» فى مهمة رسمية لحضور المؤتمر السنوى العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية عندما كان مسؤولاً عن ملف نزع السلاح فى الخارجية المصرية، ولابد أن أعترف هنا بأنه كان نموذجاً مشرفاً للدأب فى العمل والإخلاص فى تحمل المسؤولية وذلك ميراث آل إليه عن والده الفنان الراحل «كارم محمود»
وأنا لا أتصور أننى رأيت شخصاً يعتز بأبيه ويفاخر بتاريخ والده ويتشرف به مثلما رأيت فى موقف «د. محمود كارم» من سيرة «كارم محمود» الأب وتاريخه الفنى والشخصى حتى إنه يردد فى مجالسنا الخاصة بعض روائعه الغنائية خصوصاً أنه عازف ماهر على «البيانو» يراعى غيره ويحترم التقاليد ويعتز بالأصدقاء، وما من مرة دعيت فيها شخصياً للحديث عن الفنان الراحل «كارم محمود» عبر إحدى وسائل الإعلام إلا ولبيت ذلك راضياً متشرفاً وسعيداً.
ولقد رحل «كارم محمود» عن حياتنا إثر عملية جراحية ولكنه ترك بعد رحيله رصيداً هائلاً من فن لا يتراجع وذرية لا تنساه وزوجة فاضلة تعيش بقية عمرها على ذكرياتها معه إلى جانب عشرات الملايين ممن أسعدهم صوته وأطربهم غناؤه– رحمه الله– بقدر ما أعطى لأمته ووطنه وأسرته.
جريدة المصري اليوم
27 مايو 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/207599