استعدت شريط ذكرياتى معه وأنا أحضر حفل إصدار كتاب عن مسيرة حياته، بدعوة من الناشر الكبير المهندس «إبراهيم المعلم» صاحب ومدير «دار الشروق»، فى حضور نخبة من الشخصيات العامة والمفكرين والأدباء يتقدمهم أمين عام جامعة الدول العربية السيد «عمرو موسى» والأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» والسيد «الأخضر الإبراهيمى»، المبعوث الدولى المعروف، وقد تكرمت أرملته السيدة «مايسه طلعت» فوقعت لى نسخة من ذلك الكتاب، الذى جاء فى موعده، إذ إن «محمد سيد أحمد» قيمة كبيرة فى تاريخ الفكر السياسى المصرى المعاصر، فالرجل الذى ينتمى إلى عائلة «أرستقراطية» ممن حمل أفرادها لقب «باشا» قبل ثورة يوليو 1952، إلا أن ذلك المفكر العظيم قد خرج مبكراً عن شرنقة ذلك الوضع الاجتماعى المتميز كى تتغلب لديه مبادئه الفكرية ومعتقداته السياسية على وضعه الطبقى وشريحته الاجتماعية العليا، فكان أحد العُمَد الصامدة انتماء للفكر اليسارى ودفاعاً عنه، وقد قضى سنوات فى السجن التزاماً بموقفه الفكرى، بدلاً من قضائها فى القصر مستمتعاً بحياة الطبقة الاجتماعية التى كان ينتمى إليها، ولقد عرفت «محمد سيد أحمد» واقتربت منه كثيراً وشاركته فى عدد من الندوات الفكرية والمحاضرات العامة داخل مصر وخارجها، وكانت آخر مناسبة استمتعت فيها بصحبته عندما دُعينا معاً إلى منتدى «ولتون بارك» فى «إنجلترا» لمائدة مستديرة حول قضايا الصراع فى الشرق الأوسط ومستقبل القضية الفلسطينية.
وقد كان ذلك الرجل كما عهدته دائماً أميناً مع فكره، صادقاً مع نفسه، منحازاً لجانب الحق والخير، كما كانت إجادته الرائعة للغتين الإنجليزية والفرنسية خير عون له فى الانفتاح على الفكر الآخر والرأى المختلف، والاطلاع على ثقافات متعددة ورؤى متباينة، فضلاً عن قدرته على استشراف المستقبل واستلهام ملامحه، ومن يقرأ كتابه الشهير «عندما تسكت المدافع» يدرك عمق نظرة «محمد سيد أحمد» واكتمال رؤيته وإمكاناته الواضحة فى التحليل والقياس والتنبؤ.
ولقد كان - رحمه الله - متخصصاً فى الرياضيات والعلوم لا فى الفلسفة والأدب، ومع ذلك استطاع ذلك الرجل الفذ أن يضرب فى كل اتجاه بسهم، وأن تتكون لديه نوعية خاصة من المعرفة الشاملة التى لا يحوزها إلا أصحاب العقليات المضيئة والخيال الواسع والنظرة الاستباقية للأمور، ومازلت أتذكر حواره كل عام فى المنتدى السنوى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، إذ كان يطلب منه الرئيس «مبارك» كل مرة «بمداعبة لا تخلو من ود وحب» أن يطرح بعض آرائه طالباً منه تبسيطها وتجنب الأفكار الفلسفية للنزول إلى دنيا الواقع، وكانت أحاديث الأستاذ «محمد سيد أحمد» فى تلك المناسبة السنوية محل تقدير وإعجاب من الرئيس وجماعة المفكرين والأدباء والإعلاميين ممن كانوا يحضرون ذلك اللقاء الفريد، ولقد اقتربت أكثر وأكثر فى صداقتى من تلك الشخصية الفذة حتى كان يستشيرنى فى شؤون دراسة ولديه التوأم.
وقد سعدت كثيراً عندما علمت من أمهما الفاضلة – وهى بالمناسبة من أقدر السيدات المصريات إجادة للغة الإنجليزية كتابةً وحديثاً – أن ولديها بخير بعد أن ورثا عن أبيهما الراحل الجانب العبقرى فى العلوم الرياضية والتطبيقية، وإن لم يسيرا على نهجه فكرياً وسياسياً، فالعالم قد تغير، والدنيا تحولت، وما كان مطروحاً فى الماضى لم يعد متوقعاً فى المستقبل، وأنا أرى أن «محمد سيد أحمد» كان فارساً نبيلاً ومفكراً موهوباً، لديه القدرة على ربط الماضى بالحاضر وربطهما معاً بالمستقبل، ولذلك فإننى أحسب أن صفة المفكر هى أقرب الصفات إلى شخصه المتوهج دائماً المتألق أبداً.
لقد كان «محمد سيد أحمد» بحق جزءاً من ضمير أمته، وعنواناً لحقبة ولّت من زمن جميل مضى قد لا يعود مرة أخرى.
جريدة المصري اليوم
20 مايو 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/207100