هو ذلك السياسى السودانى الداهية صاحب الإسهامات الكبيرة فى تنظير العلاقة بين الشمال والجنوب فى بلاده، فعلى الرغم من أنه مسلمٌ من أبناء الشمال إلا أنه كان مستشارًا سياسيًا للدكتور «جون جارنج» الزعيم الجنوبى الراحل كما أنه هو مهندس التوجهات الجنوبية تجاه الشمال لسنوات طويلة وهو بالمناسبة وزيرٌ أسبق للخارجية السودانية فى عهد الرئيس «جعفر النميرى» كما أنه رجلٌ يتسم بالذكاء الحاد والثقافة الواسعة والاتصالات الكثيفة بشخصيات وهيئات دولية يأتى معظمها من الغرب، وهو يؤمن أساسًا بـ«سودان» ديمقراطى علمانى موحد لا تفرقة فيه بسبب الأعراق أو الديانات أو غيرها من أسباب التفرقة بين البشر، وتعكس مؤلفات الدكتور «منصور خالد» بإحكامها النظرى وعمقها الفكرى وحجم المعلومات فيها قيمة كبيرة لمن يتابعون الشأن السودانى ويهتمون بتطوراته، ولقد خصَّنى الصديق «د.منصور خالد» دائمًا بإهداء مؤلفاته بطباعتها الفاخرة وقيمتها الكبيرة، حيث يتفضل بإرسالها إلىّ بشكل منتظم، وللرجل مكانةٌ كبيرةٌ عندى فأنا أظن أنه من أكثر السودانيين ذكاءً فى الحركة واتساعًا فى الأفق وفهمًا للحاضر وتوقعًا للمستقبل.
ويعجبنى فى الموقف الفكرى الذى يمثله الدكتور «منصور خالد» أنه يكسر حاجز العنصرية والتعصب بين الشمال والجنوب، فقد استقر فى ذهن الكثيرين، خصوصًا فى العالم العربى أن شمال «السودان» مسلم وأن جنوبه مسيحى أو وثنى، وهذا تصور غير دقيق ففى الشمال عدة ملايين من الجنوب خصوصًا فى «العاصمة المثلثة» أو حولها، بينما يوجد فى الجنوب أيضًا نسبة لا بأس بها من السودانيين المسلمين، ولذلك فإن التقسيم التقليدى لطبيعة الهوية السودانية ليس تعبيرًا حقيقيًا عن الواقع السودانى الراهن، كما أنه يعتمد على فرضية ثابتة لا تضع فى اعتبارها موجات النزوح وحركة البشر داخل السودان والتى يترتب عليها نتائج سياسية وثقافية مهمة عند توصيفنا لنظام الحكم فى «الخرطوم» والتوزيع «الديموغرافى» فى السودان.
نعود مرة أخرى إلى الشأن السودانى الذى يتجه نحو استفتاء الجنوبيين على حق تقرير المصير بينما تشير معظم الدلائل إلى احتمال تصويت الأغلبية منهم فى صالح «الانفصال»، على الرغم من أن مقومات دولة مستقلة فى الجنوب قد تحتاج لعدة سنوات حتى تستقر وتنهض، وأنا هنا ألقى بجزء من تبعة ما سوف يحدث على الحكومة المركزية فى «الخرطوم» بسبب المخاوف التى استقرت لدى الجنوبيين عمومًا، وغير المسلمين خصوصاً، من التوجه الفكرى والحضارى لنظام الحكم فى «السودان»، فضلاً عن ضعف التنمية فى مدن الجنوب وقراه، ومازلت أتذكر مشاركتى فى وفد مصرى لحضور احتفالات «عيد الاستقلال» فى مطلع عام 2003 وراعنى يومها حجم الفقر وتدنى مستوى المعيشة فى مدينة «ملكال» الجنوبية، واكتشفت أن العرب لم يقدموا لأشقائهم فى جنوب السودان إلا النذر اليسير الذى لا يغرى بالبقاء فى إطار دولة السودان العربية، بل يدفعها نحو دول «الإيجاد» خصوصًا دول الجوار الأفريقى قبل دول الجوار العربى وليس من شك فى أن «د.منصور خالد» كانت له انتقادات كبيرة تُشكل فى النهاية رفضًا لكثير من السياسات القائمة، وأنا ممن يظنون أن «د.منصور خالد» واجهة لامعة للسودان الشقيق برغم كل الملاحظات التى قد تدور حوله أو الاتهامات التى يطلقها خصومه نحوه فى محاولة للتشكيك فى ارتباطه بالتراب السودانى واتهامه بأنه جزءٌ من أجندة خارجية.
والمتابعون للشأن السودانى عن قرب يدركون أن استفتاء الجنوبيين حول حق تقرير المصير لايزال يواجه عقبات إجرائية يأتى فى مقدمتها مشكلة بضعة ملايين من أبناء الجنوب المقيمين فى الشمال إلى جانب الممارسات السلبية لبعض دول الجوار المحيطة بأكبر الدول الإفريقية مساحة وهى «السودان»، وتؤثر تلك الممارسات فى مستقبل الوحدة الإقليمية للسودان وأمنه القومى، كما أن الانتخابات الرئاسية والنيابية فى «السودان» تعكس هى الأخرى بعدًا جديدًا للمشكلة المتفاقمة إذ يبدو «السودان» مطمعًا لقوى دولية كثيرة فتحت ثروته شهية تلك القوى فى محاولة للتأثير فى مستقبله، ويبقى رجل مثل الدكتور «منصور خالد» بخبرته الواسعة وفهمه العميق رصيدًا إيجابيًا لمستقبل هذا الشعب الشقيق برغم كل التحديات والمناورات والمؤامرات التى تحيط بالسودان بلد الشعراء والأدباء والمثقفين.
جريدة المصري اليوم
29 أبريل 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/205571