سوف يبقى العم «ميلاد» رمزًا مصريًا نعتز به ونلتف حوله ونطلب له طول العمرودوام العطاء .. إن الدكتور «ميلاد حنا» واحد من أكثر الذين عرفتهم فى حياتىاهتماماً بقضايا الوطن وهمومه، فلقد حمل الرجل على كاهله عبر تاريخه شؤون مصربمشكلاتها فى القلب والعقل معاً، وظل معنياً بالشأن العام فى كل مراحل تفكيره،جزءًا من رؤيته للماضى والحاضر والمستقبل.
لقد بدأ «د. ميلاد حنا»، حياته مناضلاً يسارياً يتبنى الفكر الاشتراكى ويرتبط بهإلى جانب تميزه الأكاديمى أستاذاً فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس، حيث تخرج علىيديه الآلاف من أبناء مصر والعالم العربى وأفريقيا، لذلك ارتبط الرجل أيضاً بالشأنالسودانى وعايش أشقاءنا فى الجنوب وعرفهم وعرفوه وأحبهم وأحبوه كما أبدى اهتماماًدائماً بقضايا النيل العظيم ومشكلاته واهتم بمسألة الأمن المائى على الدوام.
وما أكثر ما التقيت العم «ميلاد» طوال حياته السياسية شريكاً فى الشأن العاممعنيًا بهموم الوطن، وكنت أجده ذلك المصرى الرائع فهو قدوة فى العطاء ومثال فىالاهتمام بكل ما ينفع الناس ويصلح الشأن الوطنى، ولقد أعطى الرجل اهتمامًا كبيرًالقضية الوحدة الوطنية والاندماج الإنسانى العريق بين المسلمين والأقباط على امتدادرقعة الوطن بل زاد على ذلك أن اتخذ مواقف فكرية وسياسية واضحة أثناء الأزمات وخلالالمشكلات التى اعترضت المسيرة الوطنية المصرية.
ويوم أن جرى اعتقاله فى سبتمبر عام 1981 مع كل ألوان الطيف فى السياسة المصريةورموز الشأن العام من مختلف الألوان المصرية خرج «د.ميلاد حنا» من محنة الحبسالمفاجئ مختلفًا بعض الشىء، فلقد زاد اهتمامه بقضية الوحدة الوطنية على حساباهتماماته اليسارية كما أصبح أكثر ارتباطًا بالكنيسة القبطية وهو واحد من «الأراخنة» المعدودين لها، لقد خرج الرجل من المعتقل وهو أكثر إحساساً بحجمالمشكلات وأكثر رغبة فى الإصلاح الدينى والاجتماعى والسياسى.
ويوم أن طلع علينا بكتابه عن الأعمدة السبعة للشخصية المصرية كان يقوم بعمليةتنظير للمستقبل ويحاور الأمس من أجل أن يرتاد الغد، ولقد كرمته المحافل الدوليةونال جوائز التسامح الإنسانى والرقى المعرفى من دول أوروبية أذكر منها دولة «السويد»، وفى كل مرة ألتقيه أجد لديه جديدًا فكراً ورؤية، ثقافةً وواقعية، ولا أنسى يوم احتشدنا حوله وهو يودع رفيقًا من أبناء الوطن فى كنيسة «المرعشلى» بالزمالك عندما رحل «فليب جلاب»، الكاتب الصحفى، عن عالمنا بصورة مفاجئة، يومها قال «د. ميلاد حنا» ما يجب أن نتذكره دائمًا حول الوطن وأبنائه وتاريخه ومستقبله، ولستأدعى أن «د. ميلاد حنا» لم يكن له أعداء ومناوئون بل إن له منهم الكثيرين ممناختلفوا معه وضاقوا به وحمّلوه ما لا يجب أن يحمل،
ومنهم من رماه بالتعصب الطائفى ومنهم من وصفه بالعداء للهوية العربية ومنهم منزاد على ذلك تجريحاً واتهاماً ولكن الرجل ظل على مبادئه وأفكاره لا يضعف أمام ضغطولا يستهويه إغراء، ولعلنا نتذكر أنه هو الذى استقال من رئاسة لجنة الإسكان فى مجلسالشعب المصرى بعد أن كان عضواً معيناً فى المجلس لأنه اكتشف أنه عاجز عن طرح أفكارهالحقيقية وممارسة دوره الوطنى المطلوب.
إن «د. ميلاد حنا» لولا تقدم سنوات العمر، أطال الله فيها، لكان هو المفوضالحقيقى لشؤون السودان فى جامعة الدول العربية أو الحكومة المصرية وما أكثر ماالتقيته مع الصديق المشترك «السيد الصادق المهدى»، قطب حزب الأمة، رئيس وزراءالسودان الأسبق، كذلك فإن العلاقة الملتبسة التى سيطرت على أجواء الصلة بين «د. ميلاد حنا» و«الكنيسة القبطية» وقداسة «البابا شنودة» قد انتهت هى الأخرى، بل إننىأزعم أن علاقته بجماعة «الإخوان المسلمين» علاقة طيبة ومتوازنة وهو ضيف على كثير منمناسباتهم العامة.
إنه الدكتور «ميلاد حنا» نبت هذه الأرض الطيبة الذى شعرت يوم أن هاتفنى منذ عدةسنوات، داعياً للمشاركة فى عيد ميلاده الثمانين، بأن جزءًا رائعاً من تاريخناالوطنى يفلت من بين أيدينا وأن دورة الزمن أقوى من إيقاع الحياة، ولكن يبقى عطاء «د. ميلاد حنا» متواصلاً مع الفقراء والمستضعفين، مع أبناء الكنانة ووادى النيلمهما كانت المصاعب ومهما زادت المحن وتكاثرت الشجون.
جريدة المصري اليوم
23 ديسمبر 2009
https://www.almasryalyoum.com/news/details/219011