تُلِحُ عليَّ دائمًا تلك العلاقة الوثيقة بين الفكر والعلم، وأقول أحيانًا إن الفكر عملية رأسية بينما العلم امتداد أفقي، وأعود فأقول إن كل عالِمٍ هو مفكر بالطبيعة ولكن ليس كل مفكر عالِمًا بالضرورة، إنها علاقة حاكمة في كل نظريات التطور، ولقد لاحظت أن العالِم عندما يهتم بالشأن العام ويتحول إلى مفكر يكون أقدر من سواه على الوصول إلى الحقيقة واستشراف المستقبل، بل إنني أضيف هنا أن معظم الأفكار الكبرى في التاريخ والنظريات المهمة في العلم كانت دائمًا مزيجًا منهما معًا، ولم يعرف التاريخ عالِمًا بلا فكر كما لا نذكر مفكرًا لم يلجأ إلى العلم، ولذلك شاعت في التاريخ الإنساني نماذج من الشخصيات «الموسوعية» التي تضرب في كل نواحي المعرفة بفهم وتطرق أبواب كل العلوم بقبضة الفكر الواعي والرؤية البعيدة، وتاريخ «الحضارة الغربية المسيحية» حافل بمثل هذه النماذج، فكنا نجد الفنان التشكيلي والموسيقي والمتخصص في أحد فروع العلم وخبير الرياضيات كل هؤلاء يجتمعون في شخص واحد يظل علامة مضيئة على الطريق في مسار الإنسانية الطويل، وقد حفلت «الحضارة العربية الإسلامية» بنماذج مماثلة ولعلنا نتذكر الآن «الفارابي» والمعلم «ابن سينا» و«ابن حيان» و«ابن الهيثم» وغيرهم من العلامات في تاريخنا البعيد فقد كان كل منهم يفهم في الطب ويتخصص في الرياضيات ويكتب في توصيف الكائنات مثلما فعل «الجاحظ» في كتابه الشهير، بل إن الذي يتأمل في تاريخ الشرق ويقرأ في السفر الهندي الشهير «كليلة ودمنة» سوف يدرك أن «بيدبا» الفيلسوف قد طرق الأبواب يتلمس الحكمة في كتاب جرت ترجمته إلى «الفارسية» ثم «العربية» وأصبح مرجعًا للأجيال في كل زمان ومكان لأنه يضع «الحكمة وفصل الخطاب» في جرعة واحدة أي أنه يجمع بين الفكر والعلم من خلال الأدب الرمزي الذي تنطق فيه الحيوانات ويقترب الإنسان من جميع الكائنات، إنني أظن أن ما قلناه يحتاج إلى أمثلة عملية من واقع النظريات التي تنتمي إلى «التيار المادي» في تفسير النشأة والتطور والتاريخ والتي جمعت بين العلم والفكر في القرنين الماضيين، ومنها على سبيل المثال :
أولًا: شغلت نظرية «نشأة الكون» البشر منذ بدء الخليقة، وكلما تقدم الإنسان مساحات واسعة في عالم المعرفة شعر بأن جهله يتزايد لأنه كلما زادت مساحة «المعلوم» زادت أيضًا مساحة «المجهول»، فالذي يعرف أكثر يطرح أسئلة أكثر أيضًا، والعلاقة طردية بين المعرفة والجهالة لذلك انشغل الإنسان دائمًا بنظرية «ميلاد الكون» حتى وصلنا إلى ما يطلقون عليه نظرية «الانفجار العظيم» الذي انبثقت عنه الخلية الحية الأولى ولكن كل هذه النظريات والتحليلات ليست مشبعة بقدر كاف لنهم المعرفة والرغبة في استكشاف الحقيقة، وقد جاءت نظرية «النشوء والارتقاء» ليبحث «داروين» في أصل الإنسان ويربط بين تكوينه وبين تطور أنواع من «القردة العليا»، وهو قول مردود عليه من جانب الدوائر الدينية التي ترى أن الإنسان خلق من طين ولم يكن أبدًا تطورًا زمنيًا لحيوان ما، وقد ظل التفكير ضبابيًا ومضطربًا حول هذه النظرية، ولأنني أؤمن بدورة الحياة بين الكائنات فإنني كلما لاحظت ذكاء القرد وأفعاله انتحل لـ«داروين» عذرًا وكلما استغرقت في الكتب المقدسة لفظته فكرًا وموضوعًا، وسوف نظل نفكر في نشأة الكون حتى نهاية وجوده فالحياة قائمة على نظرية الروح، «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا»، وما نقوله الآن هو تأكيد أن «النظرية الداروينية» هي جزء من التيار المادي الذي عرفته «أوروبا» في القرون الثلاثة الأخيرة.
ثانيًا: إن «كارل ماركس» الألماني الأصل قد أمضى سنوات شبابه في مكتبة «المتحف البريطاني» وخرج علينا بكتابه رأس المال «Das Kapital» ليؤكد عمق التيار المادي في التاريخ الإنساني، وإذا كان «كارل ماركس» هو الأب الشرعي لنظريته فإن «فلاديمير لينين» قد تولى استكمال المسيرة تطبيًقا في «روسيا القيصرية» عندما اندلعت «الثورة البلشفية» وأطاحت بأسرة «رومانوف» وأنهت «العصر القيصري» فأصبحنا أمام فهم جديد للتطور البشري على أساس مادي بحت يتناقض مع الأديان ويصطدم مع القوميات ولا يرى إلا وحدة الطبقة العاملة متجاوزًا الحواجز والحدود على نحو أدى إلى انقلاب حقيقي في المجتمع الإنساني بين نظام «شيوعي» وآخر «رأسمالي»، وسوف تظل «الماركسية» بأدبياتها المعروفة نقطة تحول في تراث الفكر الإنساني بصعودها وتأثيرها ثم سقوطها فهي تمثل همزة وصل بين علم الاقتصاد والفكر الإنساني في مجمل العلوم الاجتماعية التي أخذت منها وأثرت فيها.
ثالثًا: إن «سيجموند فرويد» قد أكمل الحلقة المادية الشريرة التي شدت العقل البشري من سماوات الفكر إلى أرض الواقع، ومازلت أتذكر من سنوات عملي في مدينة «فيينا» سفيرًا لبلادي أنني كنت أرتاد مع بعض الأصدقاء بشكل دوري مقهى «لاند مان» في وسط العاصمة النمساوية فكان «النادل» يأخذني دائمًا إلى حيث كان يجلس «فرويد» على مقعده في ذلك المقهى التاريخي، وكلما ذهبت إلى ذلك المكان تمثلت فكر «فرويد» الذي رأى ـــ بشكل أو بآخرـــ أن التفسير الجنسي لسلوك الإنسان هو نظرية متكاملة كجزء من التفسير المادي لحركة البشر، وسوف تظل «الفرويدية» نظرية ملهمة في كل دراسات العلوم السلوكية وأبحاث علمي الاجتماع والنفس ومهما زاد منتقدوها إلا أنها لاتزال تتمتع بشعبية أكاديمية لا تتوقف.
إن سلسلة الحلقات المادية في الفكر الإنساني قد كشفت لنا أن «الداروينية» و«الماركسية» و«الفرويدية» مازالت تمارس تأثيرها في العلوم المختلفة وتربط ربطًا مباشرًا بين التفكير العلمي والتأمل الفكري، ونحن هنا نؤكد أن العلاقة بين الفكر والعِلم ليست علاقة «تنافسية» من بعيد ولكنها علاقة «جدلية» مباشرة، ويكفي أن نتأمل علم «الفلك» ـــ على سبيل المثال ـــ لندرك أن البحث في «المجرات» ومطالعة تطور «النجوم» تكشف أن العِلم وتطوره يؤدي إلى التفكير العميق في فلسفة الكون وسر الوجود.. إننا أمام عَالمٍ يمزج بين الفكر والعِلم كجناحين للحياة المعاصرة!
جريدة الاهرام
22 ديسمبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/461160.aspx