قرب نهاية ثمانينيات القرن الماضى، تلقيت اتصالاً هاتفياً فى مكتبى بمؤسسة الرئاسة وقال لى المتحدث إنه «محمد عبدالوهاب»، فتصورت لأول وهلة أنه وزير الصناعة، الذى كان يحمل ذات الاسم، وعندما راجعته باعتباره الوزير قال لى: بل «محمد عبدالوهاب» الفنان، فقلت له: مرحباً بفنان الشعب، وإذا به يفاجئنى بما لم أكن أتوقع، فقد قال لى: إن بينى وبينك عاملاً مشتركاً منذ زمن بعيد، فاشتدت دهشتى لأننى لا أرى بينى وبين تلك القامة الموسيقية العالية فى تاريخنا الحديث ما يمكن أن يكون مشتركاً، فلاحظ دهشتى وأردف قائلاً: لقد علمت أنك حاصل على الدكتوراه من جامعة لندن حول موضوع «الأقباط فى السياسة المصرية»، وأنك اتخذت «مكرم باشا عبيد» نموذجاً تطبيقياً، فقلت له: هذا صحيح، ولكن من أين يأتى العامل المشترك؟! فقال لى: إن «مكرم باشا» كان جميل الصوت ويهوى الموسيقى وكنا نتزاور فى دندنة أخوية بين صديقين على العود وظلت هذه الصلة تربطنا لسنوات طويلة، وأنا سعيد بأن شاباً مصرياً قد كتب عنه رسالة فى جامعة لندن، فشكرته على ملاحظته وقلت له: إنك أضفتَ لى بُعداً جديداً فى تلك الشخصية الفريدة التى كانت تملك موسيقى اللفظ وحلاوة العبارة وطلاوة الكلام، وأضفت للفنان «محمد عبدالوهاب» أن «مكرم باشا» هو القائل: «يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا جميعاً للوطن أنصاراً»، وبعد هذه المقدمة الدافئة، التى تسلل منها «عبدالوهاب» بذكائه المعتاد ولباقته الزائدة، قال لى إنه يريد أن يبعث من خلالى برسالة للسيد الرئيس «مبارك»، فقلت له: إننى تحت أمرك ناقلاً أميناً، فأضاف أنه يتمنى على الرئيس أن يتكرم بتعيين محامى الفنانين المعروف «لبيب معوض» عضواً فى مجلس الشورى، ثم أردف بعد ذلك طالباً منى أن أنقل للسيد الرئيس أيضاً رغبته فى أن يزوره الموسيقار «عبدالوهاب» فى مكتبه بالرئاسة، خصوصاً أنه التقى بحكام مصر السابقين، فوعدته بأن أنقل رسالتيه بدقة وسرعة، وبالفعل أبلغت السيد الرئيس فى أول اتصال بمكالمة فنان الشعب، فقال لى: إنه بالنسبة للأستاذ «لبيب معوض» فذلك أمر أرجو أن نتذكره فى تعيينات مجلس الشورى فى حينها، أما رغبته فى لقائى فإنه رغم ضيق وقتى أرجو إبلاغ السكرتارية الخاصة بتحديد موعد للأستاذ «عبدالوهاب» لكى أستقبله فى مكتبى برئاسة الجمهورية، وقد أبلغت الفنان الكبير برد فعل الرئيس «مبارك» حول المطلبين، فكان سعيداً وراضياً، وما هى إلا أيام قليلة حتى كان الرئيس «مبارك» يستقبل فنان الشعب بحفاوة وتقدير، وما إن انصرف الفنان الراحل من مكتب الرئيس حتى انتحى بى قائلاً إنه يرجو أن تكون صورته مع السيد الرئيس هى صورة الصفحة الأولى فى «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية»، وقد وعدته بذلك، وعندما تحدث معى الرئيس معلقاً على الزيارة التى تمت قلت له: إنك الحاكم رقم ستة الذى يستقبل «محمد عبدالوهاب» باعتباره فنان مصر الأول، فقد استقبله الملكان «فؤاد الأول» و«فاروق الأول» والرؤساء «محمد نجيب» و«جمال عبدالناصر» و«أنور السادات» من قبل، فضحك الرئيس «مبارك» وقال: إننى أظن أن مَن سوف يأتى بعدى سوف يستقبله أيضاً، وما أرويه اليوم هو شاهد على العلاقة الوثيقة التى تربط الفنان بالسلطة فى كل العصور، ونحن نتذكر الآن مكانة «كوكب الشرق» السيدة «أم كلثوم» أيضاً لدى حكام مصر الذين عاصروها، والأمر ينسحب على علاقة «العندليب الأسمر» «عبدالحليم حافظ» برموز العصر الناصرى، والإعجاب الشديد الذى كان يحمله الرئيس «السادات» لمطربه المفضل «فريد الأطرش»
إن الفن هو صناعة الحياة، وهو الدماء التى تتدفق فى ثقافة الوطن فى كل حين، لذلك فإن العلاقة بين الفنان والسلطان هى مظلة تحمل تأثير الموسيقى والغناء على حياة الأمم والشعوب وارتباطها بمَن يحكمون وأيضاً مَن يملكون!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1352447