أثارت لدى الأحداث الأخيرة فى فرنسا ما أحمله لتلك الدولة الفريدة من تقدير ينبع من ذلك الإحساس العميق لدى المواطن الفرنسى بالحرية التى بلغت ذروتها لعدة عقود عقب الثورة الفرنسية وأطاحت بالملك وقرينته تحت المقصلة، وجعلت ذلك الشعب متمردًا بطبيعته، حرًا بفطرته، حيث اختلط لديه المزاج الأوروبى بتيارات البحر المتوسط التى يزداد بها حرارة ويمضى معها عبر رحلة التاريخ فى تألق وازدهار، ورغم أننى لست من أبناء الفرانكفونية وهو ما يدعونى للأسف دائمًا فقد كنت أود أن أكون دارسًا للقانون وليس للاقتصاد والعلوم السياسية، وأن أكون ابن المدرسة الفرنسية قبل أن أكون طالبًا فى المدرسة البريطانية التى حصلت منها على الدكتوراه عام 1977، إن فرنسا قلعة الحريات بما تحمله الكلمة من معانٍ لها ما لها وعليها ما عليها، فتحت أبوابها لمواطنى الدول التى احتلتها من قبل حيث كان الاستعمار الفرنسى واحدًا من أشرس أنواع الاستعمار على الإطلاق فضلًا عن شعار (الفرنسة) الذى يعلى دائمًا من قدر الثقافة الفرنسية فى كل مكان وها هى فرنسا تدفع اليوم فاتورة غالية لتاريخها الحافل بالمتناقضات وها أنا أنبش اليوم فى ملف ذكريات التعامل المصري، الفرنسي، فإذا كان لمقار رؤساء الدول أسماء يمكن التعرف منها على الدولة ورئيسها، فالكرملين فى موسكو، و10 داوننج استريت فى لندن، والبيت الأبيض فى واشنطن، والإليزيه فى فرنسا وقس على ذلك عشرات الأسماء لمقار الحكم فى دول العالم المختلفة، ولقد كانت العلاقات المصرية، الفرنسية شديدة القوة فى عصر الرئيسين حسنى مبارك وفرانسوا ميتران وهى فترة شهدتها عن قرب بحكم عملى سكرتيرًا للرئيس الأسبق للمعلومات وحضرت كل اللقاءات بين الرئيسين وكانت اللقاءات تعقد كلها إما فى الإليزيه أو فى أحد قصور الضيافة فى القاهرة أو الإسكندرية، وأتذكر بهذه المناسبة يوم افتتاح جامعة سنجور الإفريقية بمدينة الإسكندرية أن المصعد قد تعطل لبضع دقائق معلقًا بين الأدوار وفيه الرؤساء ميتران وليوبولد سنجور وحسنى مبارك وبعض المساعدين والحراس، وظل الأمر كذلك لفترة مرت وكأنها الدهر كله حيث حبس الجميع أنفاسهم لهواجس أمنية وملابسات دبلوماسية، وكان سنجور فى ذلك الوقت فوق الثمانين من عمره وهو شاعر إفريقيا العظيم وأول رئيس لـ السنغال بعد الاستقلال، فضلًا عن تبنيه نظرية الـ «نيجرو تود» كفلسفة إفريقية شاملة وقد خدم فى الجيش الفرنسى فى الحرب العالمية الثانية كما كان عضوًا فى الجمعية الوطنية الفرنسية، وكانت مباحثات الرئيسين مبارك وميتران تتسم بالعمق والصراحة، فضلًا عن روح الود التى كانت تربط بين الرئيسين والعلاقات الوثيقة بين الدولتين، ومازلت أتذكر أن ميتران فى إحدى خطبه على العشاء الرسمى تكريمًا للرئيس مبارك فى قصر الإليزيه أمام عدد من الشخصيات الفرنسية والعربية قد أشاد مباشرة بالفنانة الفرنسية المصرية داليدا والمخرج العالمى يوسف شاهين وقال: إن العلاقات بين مصر وفرنسا لن تنتهى بهما كما أنها لم تبدأ بـشامبليون مكتشف حجر رشيد، والطريف أن المخرج الراحل يوسف شاهين كان موجودًا بين الحاضرين وكنت أجلس بجانبه وعلق فى سخرية على هذه التحية بسبب تواضعه المعروف وخجله أيضًا من الإطراء العلني، وكان قصر المارينيه هو مقر إقامة كبار ضيوف الدولة الفرنسية فكان الرئيس مبارك ومرافقوه ينزلون فيه ومازلت أتذكر أن حجرتى كانت دائمًا فى الدور الأول برقم 108 ولأن زياراتنا لباريس كانت كثيرة فقد حفظت تقريبًا محتويات حجرتى وأصبحت وكأنها منزلى فى باريس أثناء الزيارات الرسمية، ومازلت أتذكر واقعة طريفة فى قصر المارينيه عندما ارتدى يوسف العلوى وزير خارجية سلطنة عمان معطف الدكتور عصمت عبد المجيد على سبيل الخطأ ووجد الدكتور عصمت عبد المجيد نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الراحل أن البالطو المتروك له صغير بسبب الفارق فى الحجم بين الرجلين وكان يومًا لا يخلو من تعليقات ساخرة ترطب أجواء المباحثات الدافئة بين دول المجموعة العربية والجانب الفرنسي، ولقد كانت المسافة بين مقر الإقامة فى المارينيه ومقر الاجتماعات فى الإليزيه مسافة قصيرة بصورة تجعل العمل فى رحلاتنا إلى فرنسا ذا متعة حقيقية وبجهد قليل، وجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران كان مرشحًا رئاسيًا أمام شارل ديجول فى ستينيات القرن الماضى وأنا أظن أنه كان رجل دولة من طراز رفيع وتميزت آراؤه بالعمق وكان قليل الكلام شديد التأثير كما كان مغرمًا بمصر فكان يقضى عطلة الكريسماس كل عام تقريبًا بين الأقصر وأسوان، وعندما أشتد عليه المرض - بعد أن ترك مقعد الرئاسة - صمم على زيارة أسوان قبل رحيله عن عالمنا بأيام قليلة، وقد تلاه الرئيس شيراك الذى كان محبًا لمصر أيضًا وقريبًا من الرئيس الأسبق مبارك، ورغم أننى لست من أبناء الفرانكفونية إلا أننى أزعم أن التأثير الثقافى لفرنسا فى مصر أكبر وأقوى من التأثير البريطانى رغم أن الاحتلال الفرنسى مع حملة نابليون لم يزد على سنوات ثلاث، بينما مكثت بريطانيا فى مصر أكثر من سبعين عامًا دون أن تترك أثرًا عميقًا، والسبب هو أن الفرنسيين شديدو الولاء لثقافتهم حريصون على نشرها، بينما لا يصل إليهم البريطانيون ولا يتساوون معهم بالمقارنة فى هذا المجال، وها هى فرنسا تواجه ظروفًا داخلية صعبةً فى صورة احتجاجات عنيفة تذكرنا بما فعله الشباب الفرنسى عام 1968 قرب نهاية زعيم فرنسا العظيم شارل ديجول ولاشك أن إيمان الفرنسيين بالحرية هو أحد دعائم الشخصية الفرنسية فى عالمنا المعاصر.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/688203.aspx