كلما تعرضنا لأزمة أو واجهتنا محنة أطل علينا نفس السؤال, هل عالجنا المشكلة علي النحو الأمثل؟ ولماذا يبدو إخفاقنا أحيانا في بعض المواجهات والتحديات أمرا ننكره, ونلقي بالتبعية علي الغير بلا تردد؟ إن القضية في ظني تحتاج إلي دراسة أمينة وتحليل سليم فيه مكاشفة للنفس ووضوح مع الذات وتعامل مباشر مع الحقائق, وسوف أقدم هنا تصورا للأسباب التي تحول بيننا وبين اقتحام المشكلات بأسلوب علمي ومنهج عصري يعترف بالأزمة ولايدور حولها, يدرك أبعاد المشكلة ويسعي لاقتحامها في مصداقية وشجاعة وشفافية, بدلا من التسويف أو الإرجاء أو الإنكار, وما أكثر ماتعرضنا له من أزمات ومشكلات, بل وكوارث في السنوات الأخيرة, ولم يكن تعاملنا معها علي المستوي المطلوب, ولعلي أدفع بالأسباب الآتية تبريرا لذلك:
أولا: إننا لانتعلم من تجاربنا السابقة وندخل جولات المواجهة المختلفة وكأننا ولدنا أمس, مع أننا ننتمي إلي أقدم حضارات الأرض ونحن لانعرف معني الوقاية والتحسب والرصد المبكر لإرهاصات المشكلة وبوادرها, ونؤجل التفكير في أسلوب المواجهة, لأن التسويف أصبح جزءا من ثقافتنا اليومية كما أن ترحيل المشكلات والتهرب من التفكير فيها أصبح سمة شائعة بيننا, وأحيانا نكون علي يقين كامل بأن الأزمة قادمة لا محالة ولكننا ندفن رءوسنا في الرمال, ولاندري بالخطر القادم ولانتعامل مع المشكلة المؤكدة, وتلك في رأيي خطيئة موروثة تحتاج إلي نظرة مختلفة ورؤية عاقلة تواجه الأزمات والمشكلات وأيضا الكوارث بحجمها الطبيعي دون تهويل أو تهوين.
ثانيا: إننا ندخل في مقدمات الأزمة ولدينا تصور واحد لمسارها, وغالبا هو التصور الذي نريده نحن وليس التصور الواقعي أمام احتمالات مفتوحة, بينما الأفضل دائما لمن يريد أن يتعامل مع مشكلة معينة أو أزمة بذاتها أن يعتمد دائما علي البديل الأسوأ, فإذا ماتحقق له مايريد تكن سعادته بالغة وإذا لم يتحقق له ما أراد لاتكون صدمته قاسية, كما أن العمل وفقا للسيناريو الصعب يؤدي بدوره إلي اكتشاف المحاذير وتجنبها وتلمس الأخطاء والابتعاد عنها مع الاستعداد للنتيجة مهما كانت, فلانذهب إلي أم درمان مثلا وفي ذهننا احتمال الفوز وحده دون تحسب لاحتمال بديل, وهو نفس الخطأ الذي وقعنا فيه ـ مع الفارق الكبير في التشبيه ـ عندما تصورنا في يونيو عام1967 أننا سوف ندخل تل أبيب خلال عدة ساعات, ولم يكن سيناريو الهزيمة مطروحا علي الإطلاق, وأحادية النظرة قد كلفتنا كثيرا في جميع المجالات, بدءا من السياسة وصولا إلي الرياضة مرورا بمعظم أزماتنا العابرة ومشكلاتنا الطارئة وكوارثنا المفاجئة.
ثالثا: إن مبالغتنا في تصور قوتنا والاستهانة بقدرات الغير مازالت هي واحدة من عيوبنا المتصلة, بينما يجب أن يكون الأمر عكسيا ولاينال ذلك من الثقة بالنفس, بل هو يعززها ويؤكد الإيمان العميق بالذات الذي يقبع في الأعماق ولايحتاج إلي التصريح به والطنطنة بترديده من أجل الاستهلاك المحلي, إننا ـ أيها السادة ـ نحتاج إلي فلسفة مختلفة في فهم مانملك والوعي بما يملكه الآخرون حتي تكون حساباتنا دقيقة وتصرفاتنا محسوبة وآراؤنا سديدة ومواقفنا سليمة.
رابعا: إننا يجب أن نملك زمام المبادرة وألا نكون أسري لنظرية رد الفعل, بحيث نستطيع دائما أن نوجد الفعل لا أن ننتظر وقوعه, فالتنبؤ الذكي والحدس الأمين يساعدان علي رصد الحقيقة والاستعدادا لها بما يتناسب معها, لأن الانتظار للتعامل بردود الأفعال هو نوع من العجز وغياب القدرة علي الفعل وضعف روح المبادرة وترهل الذات.
خامسا: إنني أظن مخلصا أن ردود أفعالنا أحيانا تبدو مبالغا فيها بشكل ملحوظ, بعد أن نكون قد فرطنا في الحسابات الدقيقة, رغم وجود المعلومات الصحيحة فلم يكن تكوين مشجعي مصر إلي موقعة أم درمان الرياضية يتناسب إطلاقا مع ما كان يجري علي مسرح العمليات هناك قبل المباراة بثلاثة أيام علي الأقل, لذلك فقد كانت النتيجة سلبية ونالت من كرامة المصريين, رغم أنهم كانوا أقدر علي الفعل وأقوي عند رد الفعل, ولكن الحسابات كانت بطيئة والمبادرة غائبة وكأنها محاولة عفوية للاستسلام للقدر مهما يكن.
سادسا: إن الضجيج الإعلامي والشحن النفسي الذي نتبعه في مواجهة معظم القضايا والمشكلات هو فيروس قاتل يعلي من سقف التوقعات ويهييء الآخرين لمعركة حاسمة يستعدون لها ويرتبون أوراقهم قبل الخوض فيها, إن الإعلام ـ أيها السادة ـ هو سلاح ذو حدين, فهو بقدر مايكون شحنا للرأي العام الداخلي وخلقا لروح التعبئة العامة, فإنه يكون علي الجانب الآخر مدعاة لإحباط أشد وتوتر بغير حدود, فارتفاع ترمومتر الحرارة في اتجاه معين قد يحتاج إلي جهد كبير عند محاولة خفضه بحيث نصبح أمام الحاجة الملحة لمهدئات مطلوبة للرأي العام من أجل امتصاص غضبته.
سابعا: إن الصدق مع الذات وبناء المصداقية أمام المجتمع الدولي, وتأكيد درجة الشفافية في مواجهة الحدث هي أمور ضرورية لإيجاد المصداقية وصنع الثقة بشفافية المعلومات التي هي تعبير حقيقي عن اعتزاز الدولة بكرامتها ومكاشفة الآخرين بحقيقة مايجري فيها خصوصا أن مساحة الحرية المتاحة في بلدنا في مجال الصحافة لاتقارن بها حرية مماثلة في معظم الدول العربية الشقيقة, وقد يقول قائل إننا نقيم غرف العمليات لكل المشكلات إذا حدثت ويجتمع أطرافها وقد يكونون قادمين من جزر منعزلة علي مستوي الوطن, فبعضهم من جهات أمنية والآخرون من جهات دبلوماسية إلي جانب ممثلين لجهات تعليمية أو صحية أو رياضية أو غيرها,
ولكن المشكلة أن حضورهم يأتي من منطلقات مختلفة بل وثقافات متفاوتة, فيكون التخبط طبيعيا والقرار عشوائيا في كثير من الحالات.. إنني أقصد صراحة من هذه الملاحظات التي طرحتها أننا كثيرا مانعالج الملفات الصعبة بعصبية ودون عمق, كما أننا نتعامل مع الأزمات أحيانا بطريقة سطحية فيها الكثير من نقص الدراية وعدم استخدام الخبرات والإفادة من دروس الماضي, إن تفكيرنا موسمي يرتبط بتوقيت المحنة أو المشكلة أو حتي الكارثة, ولكن الأمور سرعان ماتعود لطبيعتها لنواجه مشكلات مثيلة جديدة, فلا تراكم للخبرات ولااستيعاب لطبيعة المشكلات, إنها مظاهر العقل المسترخي والنفس المستسلمة للقدر في كل الظروف, إنني أطالب بتدريس مناهج البحث وطرائق التفكير في جامعاتنا علي نطاق أوسع, كما أطالب بتدريب المتخصصين في إدارة الأزمات بكل قطاعات الدولة, إذ لايمكن أن نستيقظ فقط ونقيم الدنيا ونقعذها عندما يصطدم قطاران في الصعيد أو مركبان في نيل الدلتا أو عندما نخسر مباراة رياضية ونترك وراءها آثارا سلبية عميقة, مع أن كل الشواهد والدلالات كانت توحي بما حدث في كل هذه الحالات,
وأنا أضيف هنا إن العلاج الأمني ليس هو الدواء الوحيد لمعالجة معظم مشكلاتنا وأزماتنا, فالمسئولية موزعة علي الكل ويجب أن يتحملها الجميع, إن الدبلوماسية والإعلام والجهات السيادية والهيئات المتخصصة بالإضافة إلي المنظومة الأمنية يجب أن يكون بينها مايعزز مفهوم نظرية الأواني المستطرقة أما منطق الجزر المنعزلة فقد كلفنا الكثير في السنوات الأخيرة, إن فلسفة عمل الفريق دون حساسيات أو تبادل للاتهامات أصبحت أمرا ملحا في ظل تداعي أساليب مواجهتنا لمشكلاتنا المزمنة أو أزماتنا الطارئة, إنني أؤكد هنا أن مصر بلد يضم كفاءات ثقيلة الوزن في مختلف التخصصات والمجالات ولاتنقصها, الرؤية التاريخية ولا المكانة الجغرافية, لذلك فإنه من غير المقبول أو المعقول أن تدفع مجموعة من الرياضيين والإعلاميين ـ مع احترامي لهم جميعا ـ الدولة كلها إلي مواجهة غير محسوبة تدفع ثمنها السياسي مصر من دورها الإقليمي وعطائها التاريخي.
تلك قراءة سريعة لأسلوب روتيني متخلف في التعامل مع المشكلات والاشتباك مع الأزمات والحد من آثار الكوارث.. إن من لايتعلم من ماضيه سوف يعاني من حاضره, ومن لم يتهيأ لحاضره لن يجد مستقبله!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/12/15/OPIN1.HTM