يبقي إسماعيل صدقي باشا شخصية فريدة في تاريخ مصر الحديث, فقد امتلك الرجل رؤية ثاقبة للأحداث, واستشرافا ذكيا للمستقبل, وقدرة فائقة علي مزج السياسة بالاقتصاد, وتوظيف المسائل المالية لخدمة القضايا الوطنية, وعلي الرغم من بعض النقاط السوداء في تاريخه السياسي بدءا من العدوان علي دستور الأمة لعام1923 وتعطيله إلي جانب توليه رئاسة الوزارة مرتين ضد إرادة الأغلبية متعاونا مع القصر في ضرب حزب الوفد والحكم بدستور بديل وحزب مصطنع, برغم كل هذه البقع السوداء إلا أن تاريخه السياسي يقدم نمطا فريدا في مسار الحركة الوطنية المصرية, فهو سياسي داهية تميز بالعقلانية والتجرد ولم يعرف لغة مخاطبة الجماهير, ولم يبحث عن الشعبية ولم يستخدم أساليب ديماجوجية في جذب العامة نحوه ولكنه ظل دائما مكروها وبقي مهيبا, وبعيدا عن معظم القلوب قريبا إلي بعض العقول, كما أننا لاننسي أنه من رفاق النضال الأوائل لـ سعد زغلول ونفي معه,
لذلك فإنني لا أظن أن وطنيته كانت محل شك, ولكنه كان تجسيدا لمدرسة مختلفة في العمل السياسي تؤمن بالواقعية وتدرك الأبعاد الاقتصادية للأهداف الوطنية, ولا تحترم الشعارات النظرية أو الهتافات العاطفية, حتي أطلقت عليه الكاتبة الراحلة سنية قراعة لقب نمر السياسة المصرية, كما أن زميلتي صاحبة العلم والأخلاق التي رحلت عن عالمنا منذ سنوات قليلة الدكتورة مني محمد عبدالمنعم أبو الفضل ــ الأستاذة السابقة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وابنة المرحومة الأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين وسليلة أسرة استغرقت في العمل الاجتماعي والتطوعي لله والوطن ــ قد أعدت أطروحتها للدكتوراه في كتاب بديع بالإنجليزية عن إسماعيل صدقي في مطلع سبعينيات القرن الماضي عندما تزاملنا معا في جامعة لندن تحت إشراف أستاذ العلوم السياسية الشهير الراحل بروفيسور فاتيكيوتس..
لقد قصدت من هذه المقدمة التعريف بالدور المتميز لطراز فريد من رجال الحركة الوطنية المصرية, لذلك شاعت حوله القصص والأقاويل, ولدينا عبارة تاريخية مهمة نقلت عنه من خلال منظوره الخاص للمسألة اليهودية والقضية الفلسطينية قبيل ميلاد دولة إسرائيل, فقد قال هذه العبارة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال(لاتعلموهم الحرب), فالشعب اليهودي لم يكن عبر تاريخه الطويل محاربا جسورا, ولكنه انشغل دائما بأعمال المال والتجارة, حتي تواترت النوادر حول حرصه وبخله وقدرته الفائقة علي جمع الثروات, ونحن نتذكر أن وزارة المالية المصرية قد شغلها يهودي مصري في الثلث الأول من القرن الماضي, حيث لم يكن للمصريين مشكلة مع اليهودية كديانة, وكان المصريون اليهود جزءا لايتجزأ من الكيان الوطني, لذلك انزعج إسماعيل صدقي من عمليات التصعيد العسكري علي الجانبين العربي واليهودي في أربعينيات القرن الماضي واعتبرها نذير شؤم علي مستقبل المنطقة,,
لقد تصور ذلك السياسي العظيم ان الذين يبرعون غالبا في كل ما يحترفون ــ اليهود ــ سوف يكونون بالضرورة محاربين قتلة وسفكة دماء إذا ما دخلوا ذلك الميدان, وكان للرجل رؤيته الخاصة للصراع العربي الإسرائيلي في بداياته, فقد كان يعتقد أن المشكلة الفلسطينية يمكن أن تحل بالتفاهم الاقتصادي والتبادل التجاري, لا بالحروب الدامية أو المواجهات العسكرية, ولنا علي ذلك تعليق معاصر نسوقه من خلال الملاحظات الآتية:
أولا: إن التاريخ العبراني بفكره وثقافته قد عرف اليهودي التاجر, ولم يقدم صورة واضحة لليهودي المقاتل أو حتي اليهودي المزارع, ولكن النظرية الصهيونية قد علمت اليهود أمرين بالغي الخطورة, الأول هو استخدام العنف بدءا من هجوم العصابات علي القري الفلسطينية الآمنة, بل وبعض الأهداف المهمة في الدول العربية المجاورة( مثال فضيحة لافون) وصولا إلي تكوين الهاجاناه كنواة للجيش الإسرائيلي الذي يحترف العدوان ويسعي إلي التوسع ويبتلع الأرض والمياه, إلي جانب السطو الفاضح علي حقوق الغير, أما الثاني فهو التفوق المذهل للإسرائيليين في مجال الإعمار والزراعة معا, حتي أصبحت الكيبوتز ثم المستوطنات نموذجا للفكر الإسرائيلي الذي يخطط لكل شيء علي حساب أصحاب الأرض والحق والتاريخ, في محاولة خبيثة لتبديل الأوضاع وتغيير المعالم.
ثانيا: أنا أظن عن يقين أن القضية الفلسطينية قد تعرضت للكثير من المآزق, فهي بحق قضية الفرص الضائعة وربما كان فكر السياسي الداهية إسماعيل صدقي حلقة أولي من تلك الفرص, خصوصا أن الرجل الذي مات قبيل قيام الثورة المصرية كان يخشي من التفوق العسكري الإسرائيلي لإدراكه أن اليهود يبرعون في كل ما يحترفون, إذا ما تحول اليهودي الذي عرفناه في تاجر البندقية إلي مزارع من طراز أول وإلي محارب شرس ومقاتل عدواني, فكأنما علم العرب الأمة اليهودية أهمية القتال وضرورة الاحتراف العسكري! ومازلنا نتذكر نموذج إرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الذي كان يوجه دعواته للحكام العرب للالتقاء بهم في مزرعته متباهيا بأنه يمثل نموذج المزارع والمحارب في آن واحد.
ثالثا: إنني لا أدعو للبكاء علي اللبن المسكوب, ولا أميل كثيرا إلي عبارة( لو أن) ولكنني أظن أن الأطماع الصهيونية كان يمكن أن نواجهها بأساليب أخري وليس بالعمل العسكري وحده, خصوصا مع بدايات الصراع العربي الإسرائيلي والعقود الأولي لظهور القضية الفلسطينية, إذ أنه رغم تسليمنا بالأهداف الصهيونية البعيدة والتي مرت علي بلاط نابليون ودولة محمد علي وأروقة قصور سلاطين آل عثمان في الآستانة, وبرغم إدراكنا بأن العقيدة الصهيونية لم تولد في مؤتمر بازل الشهير مع نهاية القرن التاسع عشر إلا أنها تبدو أبعد من ذلك وأعمق تجذرا, كما أنها استغلت الحربين العالميتين الأولي(هزيمة ألمانيا) والثانية( قصة الهولوكوست) لكي تخرج علي العالم بميلاد تلك الدولة السرطانية العدوانية التي تحترف قتل الأطفال وهدم البيوت علي رءوس أصحابها واغتيال القيادات وطمس التاريخ وتهويدالقدس وتدنيسالأقصي, إنني أتساءل الآن هل كان بوسعنا في بعض مراحل الصراع العربي الاسرائيلي وخصوصا المبكرة منها أن نتخلص من جرائم إسرائيل وعربدتها في المنطقة؟!
رابعا: إنني أظن ــ وليس كل الظن إثما مرة أخري ــ أننا قد ابتلعنا الطعم من البداية, وأصبحنا جزءا من مخطط صهيوني طويل المدي, استهدفنا علي امتداد العقود الأخيرة واستغل نقاط ضعفنا, وتسلل بين صفوفنا, فعطل تقدمنا, ودمر آمالنا القومية, وسرق أحلامنا الوطنية, لذلك فإننا نعيد التفكير الآن بالنظر مليا إلي الوراء نستدرك مافات, ونصحح الأخطاء, ونتطلع نحو مستقبل مختلف, يسيطر فيه العقل وتسود معه الحكمة وتعود به المبادرة إلي الجانب العربي.
خامسا: إن الوطنية المصرية قبل23 يوليو52 وبعدها لم تستوعب جيدا حجم الخطر الصهيوني والتصعيد الإسرائيلي, فبينما كان اليهود يمضون وراء أجندة زمنية مدروسة, كنا نحن نردد الشعارات ونغوص في التهيؤات ونستهين بالآخر ونرسم الأحلام دون تخطيط لبلوغها أو تفكير في درجة واقعيتها, مع غياب الرؤية وضعف البصيرة ونقص الوعي, لقد استفادت إسرائيل من أخطائنا وقامت علي أنقاض أوهامنا, ذلك أننا رفضنا الحلول غير التقليدية للصراع العربي الإسرائيلي, ولم ندرك أنه صراع اقتصادي تكنولوجي لايقف عند البعد السياسي وحده, فالقضية الفلسطينية هي في النهاية مواجهة تاريخية وصدام حضاري لم نتمكن من التعامل معه وفقا لمقاييس العصر ومفرداته وتعقيداته.. هذه أفكارنجترها ونحن نقلب صفحات التاريخ المصري الحديث لبلد فرضت عليه المشكلة الفلسطينية فرضا, وزرعت علي حدوده دولة عدوانية تستنزف قدراته وتستهلك إمكاناته وتبدد موارده, وتأخذه بعيدا عن طريق التحديث ومسار التقدم, وهي تسعي الآن لإطفاء مصابيحه وتراجع دوره ثم إظهار الشفقة عليه والتعبير عن الشماتة فيه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/10/20/OPIN1.HTM