لقد عنيت بالشأن القبطي علي امتداد خمسة وثلاثين عاما مضت منذ بدأت كتابة أطروحتي للدكتوراه من جامعة لندن حول موضوع الأقباط في السياسة المصرية, وما أكثر ما كتبت وتحدثت وتحاورت حول هذا الشأن ولكنني ـ ولأول مرة ـ أشعر بانزعاج حقيقي وقلق شديد فقد توهمت لمدة طويلة أن الدنيا قد تحولت والأفكار قد تغيرت وأصبحنا نعيش العصر الذهبي الثاني للوحدة الوطنية المصرية بعد عصر ثورة1919, ولقد كان دافعي للوصول إلي هذا التصور هو شعوري ـ وهذا حقيقي ـ أن الأغلبية المسلمة قد بدأت تتبني معظم مطالب الأقباط العادلة أي أن القضية لم تعد مسألة قبطية ولكنها أضحت قضية عامة بالمقام الأول وهذه ايجابية مهمة لا يجب إغفالها إذ أنها تعني تماسك الجبهة الداخلية ورسوخ الوحدة الوطنية برغم كل مظاهر الفتنة وأسباب الخلاف الذي لا مبرر له, وأسمح لنفسي كمصري قبل كل شيء بأن أتطرق إلي هذا الموضوع في تجرد وموضوعية خصوصا أن الملف القبطي مفتوح منذ سنوات, وفي رأيي فإن فتح الملفات في شفافية وعلانية يمثل أكثر من نصف الطريق للوصول إلي حلولها النهائية, وسوف أطرح أفكاري بإيجاز في هذا الشأن من خلال النقاط التالية: ـ
أولا: إنني لا أتصور أن يعاقب قبطي لأنه يريد أن يمارس شعائر دينه ولا يجد كنيسة قريبة منه فيلجأ إلي أحد البيوت يجتمع فيها مع أبناء دينه يتعبدون في هدوء, وبالمناسبة فإن مكان إقامة الشعائر هو دور العبادة وأنا أعلم أن نسبة كبيرة من الكنائس لا تملك ترخيصا حتي الآن لذلك فإن البداية يجب أن تكون بتقنين أوضاعها في إطار قانون موحد لدور العبادة وهو ذلك القانون سييء الحظ الذي طال انتظاره وتعطل لأسباب غير مفهومة مع أن المجلس القومي لحقوق الإنسان قد أعد مسودته عدة مرات كما أن اللجنة المعنية في مجلس الشعب قد تقدمت به ولكن جري تأجيله بدعوي المواءمة وهي عبارة خطيرة بل قاتلة لأنها تعطل التطور وتوقف التقدم وتستسلم لابتزاز القوي الأخري. ومثل هذا القانون إذا صدر فسوف يرفع عن كاهل الدولة عبئا كبيرا ويرضي جميع الأطراف علي اعتبار أن عدد الكنائس سوف يكون بنسبة واحد إلي عشرة من المساجد المسجلة في الدولة, وبذلك يخرج الجميع من عنق الزجاجة خصوصا وأن ما سمي بـ الخط الهمايوني قد تم رفضه ودفنه في ذمة التاريخ منذ سنوات.
ثانيا: إنني أظن ـ وليس كل الظن إثم ـ أن الأقباط يتميزون بشيء من السلبية فرضتها عليهم أحقاب تاريخية وظروف سياسية لذلك فإن إقدامهم علي الكوادر الخاصة والوظائف الحكومية لا يكون بمعدل أقرانهم من المسلمين, وهذه نقطة تحتاج إلي علاج حقيقي لأن ثقة الأقباط المفقودة في سيادة القانون وتطبيق العدالة وإعمال مبدأ المواطنة هي التي تقف وراء هذا الشعور السلبي لإزالته تماما من العقل القبطي, ولقد لاحظت شخصيا أن عدد المتقدمين ـ علي سبيل المثال ـ لامتحان السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية من الأقباط عدد محدود للغاية حتي إن اللجان المعنية بالاختبارات تبحث عن عناصر مؤهلة منهم تتقدم للامتحان التحريري وقد طلب وزير الخارجية الحالي من معاونه السفير رؤوف سعد ـ وهو قبطي متميز عمل سفيرا لمصر في بروكسل وموسكو ـ بأن يدعو أبناءنا وبناتنا الأقباط من خلال تجمعاتهم الشبابية للتقدم لامتحانات السلك الدبلوماسي إذا ما توافرت لديهم الكفاءة والاستعداد لذلك, أي أن المشكلة تكون أحيانا ـ وليس دائما ـ هي سلوك قبطي موروث يتشكك في إمكانية حصوله علي حقه.
ثالثا: إنني أزعم ـ وبنفس الموضوعية والتجرد ـ أن كثيرا من الأقباط الذين يتحدثون عن الاضطهاد يستخدمون ذلك ذريعة أحيانا للحصول علي ما لا يستحقون عندما يتحدث بعضهم عن فرص ضائعة في التعيين أو الترقية مفسرين ذلك بانتمائهم الديني دون النظر إلي مستوي كفاءتهم وقدراتهم الوظيفية وهذه عملية ابتزاز تتكرر أحيانا, ولكن ذلك لا ينفي أن عامل الدين مازال يلعب دورا سلبيا أمام الأقباط علي نحو يحرمهم في بعض المناسبات التمتع بتكافؤ الفرص المتاحة أو الحصول علي المفهوم الكامل للمواطنة, وهذه ظاهرة أليمة تجاوزتها المجتمعات المتحضرة وينبغي أن يبرأ منها المصريون تماما.
رابعا: إنني أزعم أيضا أن هناك مبالغة لدي كثير من الأقباط في الحديث عما يسمي بـ خطف الإناث وإجبارهم عنوة علي اعتناق الإسلام بضغوط الزواج وغيره من أسباب الإغراء, وهذه نقطة تستحق المعالجة الحكيمة لأن الأمر يحدث من الجانبين, ولعلي لا أذيع سرا إذا قلت أن هناك حالات مماثلة لفتيات مسلمات تزوجن من أقباط وهربن معهم إلي الخارج وقد تحول بعضهن بالفعل إلي المسيحية ولكن العائلات المسلمة تتكتم علي هذه الموضوعات لأسباب دينية واجتماعية, وأنا أقول صراحة إنه لا يمكن أن تتحول كل قصة حب بين شاب وفتاة مختلفي الديانة وبالغي سن الرشد إلي فتنة طائفية وأزمة دينية, أما إذا كانت الأنثي قاصرا فتلك جناية يخضع فاعلها لقانون العقوبات الذي يطبق علي المصريين بلا استثناء.
خامسا: إنني أشعر بانزعاج شديد عندما يلجأ الأقباط في أزماتهم إلي الكنيسة ويلوذون بقداسة البابا, وعندما يتجمهر المسلمون بعد صلاة الجمعة في الأزهر الشريف لأسباب مماثلة فإن انزعاجي يتضاعف, وأريد أن أقول لهؤلاء وأولئك إن مصر ليست دولة دينية ولكنها دولة مدنية يقودها دستور ويحكمها قانون, فإذا ألم بقبطي أو مسلم مكروه فإن عليه أن يسعي إلي بوابة البرلمان أو دار القضاء العالي أو قصر عابدين فتلك هي رموز السلطات الدستورية الثلاث علي اعتبار أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية في الوقت نفسه, كما أن اللجوء إلي الصحافة أمر مقبول فهي سلطة رابعة تكشف الفساد وتنتصر للمظلوم وتحترم مبدأ المواطنة.
سادسا: يبدو لي دائما أن صورة ما يجري في الوطن مغلوطة أحيانا ومبالغ فيها دائما أمام الأقباط والمسلمين في الخارج علي السواء, فهناك قصص وهمية وأخبار كاذبة وعمليات شحن لا أري أن جهات أجنبية بعيدة عنها, فمصر دائما مستهدفة وجبهتها الداخلية موضع حسد من الغير, ولقد أتاحت لي الظروف منذ سنوات أن أعقد ثلاثة لقاءات حاشدة مع المصريين في نيويورك وواشنطن ومونتريال في ثلاث ليال متتالية وأذهلني سوء الفهم وقصور الرؤية لدي الكثيرين ولكنني لاحظت أيضا أن هناك عناصر قبطية وأخري مسلمة تتسم بالرشد والحكمة والشفافية, وها أنا أتأهب للذهاب في رحلة عمل إلي العاصمة الأمريكية وسوف تتيح لي الظروف أن أري تجمعات المصريين هناك وأن أستمع من الإخوة الأقباط وأن أتحدث إليهم لكي يدركوا أن أبناء الوطن الواحد يحملون نفس المشاعر والأفكار.
سابعا: إنني لا أزعم أن الصورة وردية أو أن الوحدة الوطنية بخير, ولكنني أذكر أشقاءنا الأقباط بأن بعض مشكلاتهم قد جري حلها في السابع من يناير( الكريسماس القبطي) قد أصبح عطلة رسمية يعرف فيها الطفل محمد أن ذلك عيد زميله في المدرسة الطفل مينا فيشبان معا علي فهم الآخر وحب الوطن, كما أن مسألة الأوقاف القبطية قد أخذت طريقها إلي الحل النهائي, كذلك فإن بناء الكنائس ـ رغم صعوبته في ظل شعار المواءمة المزعوم ـ قد بدأ يتحسن تدريجيا ويبدو أيسر بكثير من عقدين ماضيين, كما أن الجانب التعليمي والثقافي والإعلامي قد بدأ يستوعب الوجود القبطي ويدرك مفهوم المساواة ومعني المواطنة.
.. تلك هي مصر الشعب الواحد المتجانس الذي انتفض بمسلميه ومسيحييه عندما لم يلق البابا شنودة الثالث المعاملة التي تليق بمقامه في مطار هيثرو بلندن, وهو أيضا الشعب المصري الواحد المتجانس الذي انتفضت كنيسته القبطية عندما ذبح متطرف إرهابي الشهيدة مروة الشربيني في ساحة المحكمة قرب العاصمة الألمانية.. ألم أقل لكم دائما إنها مصر مربية الزمان, وحاضنة المكان, وملاذ الإنسان؟!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/7/14/OPIN1.HTM