لا أكاد أري موضوعا يسيطر علي الساحة العربية مثلما هو الأمر بالنسبة للحديث المتكرر عن دور مصر وتقدمه أو تراجعه, ولا عجب في ذلك فمصر مرصودة دائما لأنها الدولة المحورية المركزية في العالم العربي, فضلا عن أنها الدولة التي قادت المنطقة في الحروب منذ فجر التاريخ, وكانت الرائدة في السلام والتنوير والعلم والثقافة, ويهمني هنا أن أناقش بشكل موضوعي طبيعة ما يترتب حول الدور المصري وانكماشه, خصوصا أنني أري مثل هذا الطرح أمرا تعوزه الدقة, كما أنه يفتقر إلي الفهم الصحيح لمعني الدور من الناحيتين الجيوبولوتيكية والثقافية البشرية. فمصر بلد عجوز يحمل علي كاهله وقر السنين, ولديه تراكم ثقافي وحضاري تحسده عليه أمم الأرض وشعوب العالم, بل إن اسم أم الدنيا والمحروسة والكنانة كلها مسميات أطلقها الغير علي هذه الأرض المباركة التي كلم فوقها موسي ربه, وعبرت عليها رحلة العائلة المقدسة حتي أضاءت ربوعها بنور الإسلام. إنها الدولة التي تكرر اسمها كثيرا في الكتب المقدسة, ولا عجب فهي مصر التي اكتشفت معني التوحيد, واستعدت للحياة الثانية بالمقابر والمعابد والأهرامات, وقضية الدور بالنسبة لمصر ليست قضية جديدة, ولا فكرة عابرة, إنها أبعد من ذلك وأعمق, ولعلي هنا أطرح بعض النقاط المتصلة بقضية الدور دوليا وإقليميا بشكل عام.
أولا: إن مسألة الدور ليست بدعة استراتيجية, أو نوعا من الفانتازيا السياسية, وأنا أندهش كثيرا عندما أقرأ لبعض الكتاب المصريين والعرب عندما يتحدثون عن موضوع الدور بشيء من الرفض, بل الكراهية, كما لو كان أمرا إضافيا يجري إقحامه علي الحياة السياسية المعاصرة, والعلاقات الدولية لعالم اليوم, ويربط أعداء مسألة الدور المصري بين رؤاهم الناقصة والعصر الناصري تحديدا, ويرون فيه المرجعية الوحيدة لقضية الدور التي يرفضونها وهم يغفلون, عمدا أو سهوا, شخصية مصر التاريخية, فهي بلد بضاعته الدور الإقليمي, ألم نقل كثيرا من قبل إنها دولة تبيع سياسة وتشتري اقتصادا؟! ومازلت أتذكر ذات يوم أنني كنت في الخارجية البريطانية علي موعد مع المسئول عن قسم الشرق الأوسط, فإذا به يقول لي إنه سعيد للقائي لسبب إضافي هو أنه سوف يستقبل بعدي بعض مندوبي دول عربية أخري, وعندما يقول لهم إنني كنت مع عضو من السفارة المصرية فإن ذلك سوف يعزز من قوة حديثي إليهم, وحواري معهم, ولست أنسي أبدا أن بعض الشركات الدولية, خصوصا في مجال التسليح, كانت تتمني دائما أن توقع العقد الأول في الشرق الأوسط مع الدولة المصرية, لأن ذلك سوف يجذب بالضرورة دولا أخري تستأنس بموقف الشقيقة الكبري, وتمضي علي درب الدولة النموذج, لذلك فإن الحديث المغلوط عن عدم أهمية الدور المصري الخارجي هو حديث يفتقر إلي الموضوعية والعلمية.
ثانيا: إن مراجعة أهمية الدور المصري في المنطقة خلال السنوات العشرين الأخيرة سوف تؤكد صواب ما نذهب إليه لأن الدور المصري, كما قلت في مناسبات كثيرة, شمس لا تغيب, قد تحجبها بعض الغيوم أحيانا, وتغطيها سحب صيف أحيانا أخري, لكنها تظل ساطعة أبدا لا تحتجب, ولعلي أذكر البعض بعدد من الإنجازات الأخيرة للدولة النموذج صاحبة الدور الذي قد يغير أدواته لكنه لا يختفي تماما, ألم تحصل مصر علي جائزة نوبل أربع مرات في العقود الثلاثة الأخيرة لكل من السادات, ومحفوظ, وزويل, والبرادعي؟ ألم تبن مصر الأوبرا مرة ثانية بعد حريقها, لأنها صاحبة الإشعاع الثقافي, والسبق الفني في المنطقة؟ ألم تحفر مصر مترو الأنفاق بمراحله المتتالية في عاصمتها للمرة الأولي في الشرق الأوسط؟ ألم يتقدم بطرس غالي لأرفع منصب دولي؟ ألم تعد مصر مكتبة الإسكندرية, منار المعرفة, وبعثت دورها من جديد؟
ثالثا: إن الذين يتحدثون عن تواري الدور المصري إنما يربطون ذلك باتفاقيتي كامب ديفيد والسلام المصرية ـ الإسرائيلية, وهم يفسرون كل أحداث المنطقة وحقائق الحياة بذلك الحدث الذي مضت عليه الآن قرابة ثلاثين عاما, وهم ينظرون إلي التوجه المصري نحو السلام الذي أصبحت تشاركها فيه كل الدول العربية بغير استثناء, ويربط دعاة هذا الرأي بين ريادة مصر لطريق التسوية السلمية, والاستقرار الإقليمي, وحديثهم الممل عن عدم جدوي الدور المصري وتراجع أهميته, بينما مصر التي منيت بالهزيمة عام1967 وبدأت سنوات النكسة التي لاتزال آثارها باقية علي الأرض العربية حتي الآن, هي مصر نفسها التي عانت من موجات الانتقاد التي وصلت إلي حد الشماتة, وعندما انتصرت في أكتوبر1973 لم ينتبه الكثيرون إلي الجهد الذي قام به الجيش المصري لعبور أكبر مانع مائي, وتحطيم خط بارليف وغرس العلم المصري فوق أرض سيناء, فمصر موضع انتقاد في الحرب, ولوم علي السلام!
رابعا: إن الحديث عن وراثة الدور المصري واحتلال بدائل أخري له هو حديث يفتقر إلي الصدقية والدقة, لأن الدور ليس منحة من أحد, لكنه معطي تاريخ وجغرافي لا يمكن العبث به, وهو أيضا ليس ثوبا نرتديه حين نشاء ويخلعه عنا من يريد, فالدور أكبر وأهم وأعظم من كل ذلك, ومن يقل إن إيران الثورة الإسلامية تحاول أن ترث الدور المصري في المنطقة مخطئ, لأن إيران إذا امتلكت التأثير الديني فهي لا تملك الأداة الثقافية التي اعتمدتها مصر في القرنين الأخيرين, وإذا امتلكت طهران قوة المال تشتري به الأعوان والخلصاء, وتجند للمريدين والأصدقاء, فإن ذلك لا ينهض وحده ثمنا لدور يدوم, أو مكانة إقليمية تستمر, وليتذكر الجميع أن الاتحاد السوفيتي السابق قد دخل المنطقة من البوابة المصرية في العصر الناصري, وخرج من البوابة نفسها بقرار من الرئيس السادات, كما أن عام1974 كان هو عام التوقيت العربي لقبول النفوذ الأمريكي في المنطقة, عندما زار الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون مصر إيذانا بطي صفحة الماضي, وتطلعا لعلاقات أفضل مع الدول العربية, فمصر هي البوابة التي يدخل منها من يريد الوصول إلي الشرق الأوسط, ويخرج منها من تلفظه شعوبه أو نظمه, كما أن مصر هي قاعدة الأحلام الإمبراطورية في الشرق, سعي إليها الإسكندر الأكبر, ووفد بعده بعدة قرون نابليون بونابرت, وكلاهما مدفوع بأحلام عريضة, وآمال واسعة في إمبراطورية شرقية كبري, وبالمناسبة فإن مصر ينبغي ألا تضيق بغيرها, أو تتبرم من دور يسعي إليه شقيق لها ـ صغيرا كان أو كبيرا, فالساحة ـ مفتوحة للجميع ولكل دولة تجتهد نصيب ليس مقتطعا من سواها, ولا مخصوما من غيرها.
خامسا: إن خفوت الدور المصري أحيانا هو قرار إرادي تقوم به الدولة المصرية بسبب ظروفها الداخلية, أو مشكلاتها الإقليمية, لكنه لا يرتب أبدا قيدا علي المستقبل, أو مصادرة علي المطلوب, إذ أن استئناف الدور لا يحتاج لأكثر من إرادة سياسية, وأدوات بديلة, وديناميات متحركة, وأنا أدعو هنا إلي أن يكون الدور الإقليمي لمصر دائم الاشتباك في قضايا المنطقة, فهو طرف في مشكلة الملف النووي الإيراني, وطرف في الدور السياسي التركي, وطرف أساسي في العلاقات العربية ـ الإسرائيلية, فضلا عن مساحات أخري للحركة أدعو لاقتحامها بشدة, وأعني بها الدور الإفريقي لمصر, والدور الإسلامي أيضا, وكلاهما يفتح شهية الغرب والولايات المتحدة الأمريكية إذا تعاملت مصر في هذين الملفين بدلا من أن يحتكر الصراع العربي ـ الإسرائيلي دور القاهرة, ويختزل الجهد المصري فيه, ولعل الدور المصري في إفريقيا خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هو خير شاهد علي ذلك, ونحن جميعا نتطلع إلي يوم تعود فيه جذوة الحماس المصري لدورها الإفريقي والإسلامي مثلما هو الأمر لدورها العربي لأن العائد في النهاية ليس سياسيا فقط, ولكن له مردوده الاقتصادي الكبير, والثقافي الواضح, وها هي دولة جنوب إفريقيا بعد سقوط سياسة الفصل العنصري الأبارتيد وعودة الدولة الجديدة إلي الساحة الإفريقية والدولية فخسرت مصر أمامها استضافة المونديال ومقر البرلمان الإفريقي, وتصارع معها الآن علي مقعد واحد في مجلس الأمن عندما يحين وقت المواجهة, لذلك لا أريد لأحد أن يتصور ولو للحظة أن مسألة الدور الإقليمي هي مجرد شعار سياسي, أو مخرج وطني من أزمات داخلية, لأنها أكبر من ذلك, وأهم وأعظم.
أيها السادة هذه ملاحظات خمس أردنا منها إعادة الثقة إلي دور مصر النيل والأهرامات, مصر المساجد والكنائس, مصر الرواد الكبار من المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والفنانين, مصر التي استضافت رواد المسرح والصحافة والسينما عندما قدموا إليها من الشام الشقيق بلا حساسية أو قلق أو اعتراض, مصر الموئل والملاذ, مصر الوطن والشعب, مصر الحضارة والمنارة والضياء.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/6/16/OPIN1.HTM