الأهرام اعرق صحف الشرق الأوسط وأكثرها انتشارا ويقبل قراؤه عليه امتداد لتقاليد عائلية وثقافية واجتماعية يعرفها من تعودوا علي تلك الصحيفة اليومية الأكثر تحفظا بين الصحف المصرية علي الاطلاق, ولكن الأمر لايقف عند هذا الحد فللاهرام ميزة أخري هي انفراده بأشهر صفحة وفيات في الصحافة العربية كلها حتي شاعت نادرة تقول لم يمت من لم ينشر نعيه في الأهرام ولقد حرصت علي متابعة هذه الصفحة علي امتداد سنوات عمري لاني اكتشف فيها قدرا كبيرا من المعلومات العائلية والمصاهرات الأسرية ـ علي نحو يرضي فضولي الزائد ـ كما انها تفصح احيانا عن مراكز القوي المختلفة والتركز الطبقي في بعض المواقع, بل انني اظن ان بعض اجهزة الاستخبارات الاجنبية تتابع هذه الصفحة وقد تستشف منها قدرا لابأس به من المعلومات ـ خصوصا في زمن الحرب ـ لذلك فان القائمين علي الصفحة يضعون بعض الضوابط خصوصا بالنسبة للرتب العسكرية وصلات القربي بكبار المسئولين, ويستهويني كثيرا ان اتأمل اعمدة النعي الاصلي ومربعات التعزية واقرأ من وراء سطورها الكثير مما لايدركه إلا المعنيون بمتابعة ظواهر معينة, ولقد خرجت بعد عشرات السنين من قراءة هذه الصفحة وتقليب ما يطرأ عليها ـ بعدد من
الملاحظات اطرحها فيما يلي:
أولا: لقد تطورت صفحة الوفيات وبدأت تدخل مرحلة جديدة من مراحل التطور المرتبط بالانفتاح الاقتصادي وتنامي نشاط رجال الأعمال فظهرت المربعات الكبيرة في التعزية واصبحت هناك عشرات الالوف من الجنيهات ينفقها الاثرياء بسخاء في النعي الواحد وأنا اري انها اقرب إلي الدعاية والاعلان منها إلي المواساة ومشاركة الاحزان وقد اتخذ بعض كبار المسئولين موقفا صارما من هذه الاعلانات فألزموا الأهرام بعدم نشر اي تعزية لهم وقد فعل ذلك ذات يوم رئيس ديوان رئيس الجمهورية وفعل نفس الشيء رئيس الوزراء عندما فقد شريكة حياته مؤخرا, كما اكتفت اسرة رئيس الدولة ببيان مقتضب ومحدد عن الرحيل المفاجئ لفتاها الغالي, فالحزن النبيل اعمق واعظم من مشاطرة مطبوعة أو اعلان مدفوع.
ثانيا: ألاحظ كثيرا ان من يقرأ صفحة الوفيات قد يتوهم ان نسبة المسيحيين في مصر تزيد علي ثلاثين بالمائة والتفسير عندي ان المسيحيين المصريين خصوصا الارثوذكس يحتفظون بالتقاليد المصرية القديمة التي بنت الأهرامات للموتي واخترعت احتفال يوم الاربعين بعد الوفاة كما ان المسيحيين المصريين حريصون علي اثبات الوجود واظهار المكانة لذلك فهم يسرفون كثيرا في الانفاق علي اعلانات الوفيات ويرون فيها ساحة للاعلان عن الذات ومنبرا لمخاطبة الغير.
ثالثا: ان اشد ما يؤلمني حقا هو توظيف صفحة الوفيات لخدمة اهداف معينة مثل الترويج لبعض الاسماء والدعاية المستترة وراء بعض السطور ومحاولة تكريم الاحياء علي حساب الموتي, فالصفحة محكومة بالمظهريات اكثر من اقتحامها لجوهر الحقيقة وفيها قدر كبير من المبالغة والايحاءات والايماءات التي قد لاتعبر عن الحقيقة بالضرورة وهذا يعكس تطورات سلبية جديدة وفدت علي المجتمع في السنوات الأخيرة.
رابعا: يزعجني كثيرا ان اري بعض الاسماء مسبوقة بكلمة الشريف أو الشريفة وانا لا أفهم من هم الاشراف؟ هل هم فعلا امتداد بيت النبوة واحفاد الرسول حقا؟ انني اشك في ذلك تماما بل انني وجدت من ارسل لي شخصيا شجرة عائلة يجعلني فيها منتميا لمن يسمون بالاشراف وانا اشك في ذلك تماما, ولقد قال لي البعض انه مستعد لاستخراج بطاقة عضوية نقابة الاشراف لي بصورتين ومبلغ يقل عن مائة جنيه اشتراكا سنويا, وانا لا اتحمس لذلك اطلاقا واحسب اننا جميعا سواسية كأسنان المشط ولا اتصور ان يتميز البعض عن البعض بمجموعة من الأوهام لاترقي ابدا إلي مستوي الحقائق اذ لاتوجد دماء نقية ولا اعراق ثابتة والإسلام لايرحب بذلك ايضا ويجب ان نتذكر الأثر الإسلامي الشهير لافضل لحر قرشي علي عبد حبشي إلا بالتقوي.
خامسا: انني استشف احيانا من التدقيق في بعض اعمدة النعي عددا من المصاهرات الإسلامية المسيحية واختلاط الانساب بشكل رائع يقدم صورة راقية للوحدة الوطنية التي نتغني بها مساء ونتنكر لها صباحا, وادرك والحال كذلك اننا نسيج واحد لامة مصرية ضاربة بجذورها في اعماق التاريخ.
سادسا: انني اري احيانا في نعي الوفيات تعبيرا طبقيا لامبرر له وقدرا كبيرا من التفاخر الاجتماعي الذي يصل إلي حد الادعاء وينسب إلي الراحلين ما لم يكن لهم في محاولة لتكريم الاحياء قبل غيرهم واضفاء مستوي اجتماعي لم يكن متاحا من قبل, وما أكثر ما رأيت من وفيات يأتي بعد اسم صاحبها سجل حافل من الوظائف الكبري والشهادات العليا بينما صاحب النعي يقبع في قبره المظلم يستقبل الملكين وينتظر لحظة الحساب!
سابعا: لاتخلو صفحة الوفيات من بعض الملاحظات ذات الطابع السياسي والقضائي ايضا ومازالت اتذكر رحيل قاض مشهور كان معروفا بالصرامة وقسوة الاحكام, وعند رحيله فوجئنا بعبارات تدعو إلي الثأر وتغمز وتلمز كما لو ان الوفاة كانت غير طبيعية, ولقد حار الناس يومها في أمر ذلك النعي وانتشرت الشائعات وترددت الاقاويل والتأويلات.
ثامنا: دعنا نعترف ان نسبة وفيات الحوادث تعلو كثيرا نسبة الوفيات الطبيعية فكثيرا ما شعرت ان قلبي يكاد ينزف دما وأنا اقرأ اسم طالب صغير أو شاب في مقتبل العمر يستهل الحياة يدفع حياته ثمنا للحظة طيش من سائق أرعن, وعندما أعلنت الدولة عن قانون المرور تفاءلنا خيرا وتصورنا انه سوف يضع نهاية لنزيف الاسفلت ولكن لم نشعر بشيء من ذلك فمعدلات الحوادث القاتلة في تزايد واحساس الشباب بمسئولية المغامرة عند قيادة السيارة لايبدو ملحوظا بالقدر الكافي حتي الآن.
تاسعا: ان نوعية الجرائم غير المسبوقة في التاريخ المصري والتي تظهر بعض دلالاتها المجردة امام التجمعات البشرية المختلفة توحي بأن شيئا ما يحدث في بلدنا بل ان هناك انواعا من النعي تشير إلي عدد من الجرائم الدموية التي لم تكن متوقعة علي الاطلاق ولقد اشرنا إلي شيء من ذلك في مقالنا السابق تحت عنوان قراءة في صفحة الحوادث كما ان هناك نوعا من القتل الخطأ تصل فيه درجة الأهمال إلي حد التعمد خصوصا من اللوريات علي الطرق السريعة ليلا.
عاشرا: ان صفحة الوفيات تكشف إلي حد كبير احوال الصحة النفسية للمجتمع وتضعنا امام امراضه وهمومه بل ومشكلاته ايضا فهي تلخيص للمرحلة التي يمر بها والأطراف الذين يتعاملون علي مستوياته العليا اذ لا اظن ان الكادحين والفقراء يجدون من يذكرهم في صحيفة بحجم الأهرام فهم يموتون في صمت ويرحلون بلا ضجيج ولاتقام له السرادقات ولاتتحرك المباخر فحتي الموت اصبح طبقيا! ولا اظن انني استطيع ان اضيف شيئا إلي ما رأيته بعين رأسي من عمليات التصوير بالكاميرا في دور العزاء.
هذه نقاط عشر اردنا منها ان نؤكد ان مصر وهي صاحبة واحدة من أقدم الحضارات وأكثرها امتدادا في عمق التاريخ قد قامت هي الأخري علي فلسفة الموت لذلك فان المقابر الفرعونية هي التعبير عن الحياة الثانية والبعث بعد الموت, من هنا تجذرت المشاعر المتنامية لدي المصريين حتي جعلت الحزن العميق امام الموت ظاهرة يشترك فيها الجميع, انها حضارة شعب له نظرة خاصة تجاه الموت لذلك فهي ايضا حضارة مؤثرة ذات بصمات قوية في الزمان والمكان والانسان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/6/2/OPIN1.HTM