ساقتني الظروف في مهمة عمل للمشاركة في المؤتمر البرلماني الدولي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا حيث أمضيت عدة أيام والأمطار الغزيرة تتساقط وصوت الرعد يدوي فوق مدينة ترتفع بألفين وسبعمائة متر فوق سطح البحر, حيث تقل نسبة الأوكسجين في الجو ويشعر القادم الجديد بالإرهاق الشديد مع صداع مستمر يزول تدريجيا مع مرور الوقت وبعد التعود علي الوضع البيئي هناك. وقصتي مع إثيوبيا طويلة فقد زرتها أول مرة ـ حاملا للحقيبة الدبلوماسية ـ عام1970 في ظل حكم الإمبراطور هيلاسلاسي سليل البيت الأمهري الحاكم الذي كان يستقبل زواره وأسد ضخم يلازمه أثناء اللقاء,
فهو في ضمير شعبه بطل الاستقلال الذي لا تخلو مكانته من مسحة أرثوذكسية فهو النجاشي الحاكم الذي شارك مع الرئيس جمال عبدالناصر في وضع حجر أساس الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة في عصر قداسة البابا الزاهد كيرلس السادس, وقد تواترت زيارتي لذلك البلد القديم لعدة مرات تحت الحكم العسكري بقيادة ميريام مانجستو حتي جاءت زيارتي الأخيرة لأشهد التغييرات التي طرأت علي ذلك البلد الإفريقي العريق التي يبدو بعضها إيجابيا وبعضها الآخر سلبيا ولكنها لا تخلو من متناقضات وتحديات ومشكلات, وإذا كان لي أن أتعرض للعلاقات بين مصر وإثيوبيا بكل ما فيها من رواسب تاريخية وقرب جغرافي وعلاقات سياسية, فإنني أتطرق إلي هذا الأمر من خلال النقاط التالية:ـ
اولا: عندما نتحدث عن دول الجوار العربي فإن الكل يكتب عن إيران وتركيا بينما تبدو منطقة القرن الإفريقي ثانوية وأنا أراها شديدة الأهمية خصوصا عندما نشير إلي الدولة التي تضم أهم قوميات شرق إفريقيا وأعني بها أثيوبيا, فالأحباش جزء مهم من تاريخ الأعراق البشرية والديانات الإبراهيمية في المنطقة كلها, فإذا كنا ساميين فهم حاميون حيث يلتقي أصلنا المشترك عند نبي الله نوح عليه السلام, كما أن اليهودية والمسيحية والإسلام قد عرفت طريقها إلي سكان الهضبة وأطرافها فأصبحت جزءا لا يتجزأ من التراث الروحي لديهم, فالهجرة الإسلامية الأولي كانت إلي الحبشة قبل أن تكون من مكة إلي المدينة المنورة,
لذلك فإن الثقل الحضاري والثقافي لتلك البقعة من شرق افريقيا هي شريحة مهمة في تاريخ العالم القديم ولا يمكن تجاهل وجودها المؤثر في تراث الإنسانية, من هنا كان طبيعيا أن تبدو اثيوبيا دولة تعددية واضحة تمتزج فيها دماء العرب بالأفارقة وتختلط فوق أرضها مجموعة متداخلة من القيم والتقاليد, وإذا كانت القومية الأمهرية قد سادت هناك فإن ذلك لا ينفي وجود القوميات الأخري إلي جوارها وتأثيرها الذي لا ينكر إلي جانبها, ولقد جسد ذلك كله إمبراطورها الراحل هيلاسلاسي بكل سطوته وقسوته ومكانته!
ثانيا: إن الاثيوبي حذر بطبيعته, متحفظ بفطرته, تحكمه عقدة الشك تجاه الأجنبي بل إنني أظن أن نظرتهم لمصر لا تخلو من أسباب للقلق الدفين والريبة المستترة وذلك ميراث قديم ينطلق من الجوار الحضاري والاشتباك التاريخي والحوار الانساني فالاثيوبيون لديهم مشاعر متداخلة, فمصر أمامهم بلد عريق وكبير تصب فيه مياه النيل الذي تأتي85% من مياهه عبر الأمطار التي تهطل علي الهضبة ولديهم أيضا إحساس بأن مصر بلد متقدم يحتاجون إلي دوره التنموي الذي يعوضهم عن الشعور الطاريء بالظلم تجاه القدرة علي استغلال واستخدام المياه بين دول النهر سواء في الشرب أو الري أو توليد الكهرباء.
ثالثا: لقد استجاب الاثيوبيون في أعماقهم لمن همسوا في آذانهم ـ وآذان غيرهم ـ من دول حوض النهر قائلا: إن القرن العشرين كان هو قرن البترول بعوائده الضخمة واستثماراته المتراكمة ولقد جاء القرن الحادي والعشرين لكي يكون قرن الصراع علي المياه فمن حقكم يا من يبدأ مجري النهر من بلادكم أن تتحكموا في تلك الثروة العظيمة فإذا كان العرب قد أفادوا من عصر الطاقة فإن من حق الأفارقة أن يفيدوا من عصر الصراع علي المياه فإذا كانوا شركاء في حوض النهر فإن علي الأكثر تقدما أن يمد يده لغيره دون حساسية أو مراوغة فتلك هي فلسفة الشعوب القديمة والمجتمعات المتقاربة.
رابعا: إن العلاقات المصرية الاريترية قد انسحبت هي الأخري سلبا علي العلاقات المصرية الاثيوبية بل إنني سمعت من يتهم مصر في إفريقيتها ويزايد علي دورها ويتصور أنها دائمة رهينة لأوضاع الشرق الأوسط ويضيف أصحاب هذا الرأي أن مصر قد اقتربت من اسياسي أفورقي وفتحت له صدرها بما زاد من قدرته علي خلق المشكلات أمام الدولة الاثيوبية والتمادي في النزاع معها.
خامسا: إن الملف الديني في العلاقات المصرية الأثيوبية له أهميته حتي أن مكرم عبيد باشا كان يزجر شباب الأقباط الذين يشتكون إليه من بعض التصرفات الطائفية قائلا لهم فليهاجر إلي الحبشة من لا يرضي عن حياته في وطنه مصر, كما كانت تتم رسامة مطران اثيوبيا من المقر البابوي في القاهرة, حيث ارتبطت الكنيستان الأرثوذكسيتان بروابط قوية حتي نهاية عصر هيلاسلاسي وعندما جاء مانجستو قطع الرابطة الدينية وأعلن استقلال الكنيسة الأثيوبية وهو أمر مازال الأثيوبيون يشعرون بحجم الخطأ فيه لأن الفقراء لا تعنيهم الاختلافات الدينية بقدر ما تعنيهم المصالح اليومية المباشرة,
وعندما ذهب قداسة البابا شنودة الثالث في زيارة إلي أثيوبيا عام2008 استقبله الشعب هناك استقبال الفاتحين فقام رئيس الجمهورية الأثيوبي بتقبيل يده بينما اكتفي رئيس الوزراء ملس زيناوي بتقبيل صليبه فقط كتعبير منه عن النزعة الاستقلالية التي يتحمس لها وقد جاءت بعد ذلك زيارة قداسة البابا إلي الكنيسة الأرثوذكسية باريتريا بمردود سلبي علي الجانب الأثيوبي ومازلت أتذكر أنني الذي نقلت لقداسته ذات يوم رجاء السيد أحمد ماهر وزير الخارجية حينذاك بأن يتفضل قداسته بقبول دعوة مطران اريتريا لأنه يلح في ذلك لما تمثله الزيارة من دعم له ولبلاده, وأتذكر أن قداسة البابا قد تفضل وشرح لي يومها ملابسات العلاقة بين الكنيسة المصرية والكنيسة الاريتيرية واتسم حديثة كعادته بالسماحة والرحابة والأبوة.
سادسا: إن محاولة الاغتيال الغاشمة التي تعرض لها رئيس مصر في العاصمة الاثيوبية صباح السادس والعشرين من يونيو عام1995 قد تركت ظلالها علي العلاقات بين البلدين علي الرغم من أن مصر قد اتخذت موقفا شديد الاعتدال والسماحة تجاه ما حدث خصوصا أن الدولة الاثيوبية لم تكن شريكا فيما جري ولكنها شعرت بانزعاج شديد مما حدث ورأت فيه عدوانا علي سيادتها وأمن ضيوفها ومنذ ذلك الحين لم يحضر الرئيس المصري اجتماعات القمة الإفريقية السنوية هناك, وقد تركت مصر للسلطات الاثيوبية التحقيق كاملا في ذلك الحادث احتراما لسيادتها وتقديرا لظروف ذلك الشعب الشقيق.
سابعا: لقد اتخذت الحكومة المصرية موقفا معتدلا من التدخل الاثيوبي في الصومال وإن كانت قد طالبت بجلاء قواتها عن ذلك القطر العربي المسلم الشقيق فور انتهاء مهمتها ولا شك أن الاثيوبيين لا ينسون أيضا المواقف المصرية الداعمة للصومال في العقود الأخيرة سواء أثناء حرب أوجادين أو بعدها.
.. هذه ملاحظات سبع أردت منها أن أقول إن أهمية اثيوبيا بالنسبة للعرب عموما ولمصر خصوصا لا تقف عند حدود مياه النيل ولا تمتد فقط إلي التاريخ الكنسي المشترك ولا إلي الأغلبية النسبية من المسلمين بين السكان ولكنها تعود أساسا إلي الأهمية الاستراتيجية لذلك القطر الشقيق الذي سعت إليه إسرائيل بعد سنوات قليلة من إعلان قيام دولتها واستقبلت منه بعد ذلك يهود الفلاشا, إن لذلك القطر الإفريقي الكبير أهمية صنعتها الجغرافيا وأضاف اليها التاريخ وعززتها علاقات بشرية ضاربة بجذورها في الماضي السحيق, لذلك فإنني أقول لكل من يعنيهم الأمر إن بلاد الأحباش تحتاج إلي الدعم التنموي والاهتمام السياسي والاقتراب الثقافي خصوصا أننا مستهدفون من اتجاهات متعددة ومعرضون لضغوط من قوي مختلفة,
وقد آن الأوان لكي نقيم توازنا بين سياستنا العربية والتزاماتنا الإفريقية.. ونحن نتطلع إلي تحقيق ذلك قبل فوات الأوان!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/4/21/OPIN1.HTM