لا أظن أن مسألة خارجية سيطرت علي الحياة السياسية المصرية في القرنين الماضيين مثلما هو الشأن السوداني, حتي ترددت شعارات كثيرة حول وحدة وادي النيل والبلدين التوأم وعبرت مع مياه النهر مئات الأحداث, وظلت العلاقة ذات طابع موسمي مثل الأمطار التي تسقط علي هضبة الحبشة وتفتح مجري النيل العظيم,
ولم تستقر لأي من الدولتين مصر والسودان سياسة دائمة أو رؤية مستمرة تجاه الأخري, بل ظلت تتذبذب صعودا وهبوطا علي نحو أضر بالبلدين معا, وكان خصما مما يجب أن تكون عليه علاقات الدولتين اللتين جمعهما العرش العلوي فترة من الزمن, وربط بينهما الاستعمار البريطاني ردحا آخر, واضعا البذور السامة لسياسة فرق تسد والتي أثمرت كما هائلا من الحساسيات وقدرا كبيرا من المخاوف المتبادلة حتي حصد الجانبان أزمة ثقة يحاولان اخفاءها بمزيد من الشعارات الزاعقة وكم من العواطف الملتهبة,
حيث وصلنا الآن إلي مرحلة لم تعد فيها الأجيال الجديدة في البلدين واعية بالوشائج التاريخية القوية ولا أواصر الجوار الأزلي, وتلك في ظني قمة المأساة في العلاقات بين البلدين خصوصا أن مصر اختارت التعامل مع الشرعية في الخرطوم قبل غيرها,
واختار السودان التعامل مع المعارضة المصرية قبل غيرها أيضا! وهنا أستأذن القارئ في أن أبسط أمامه الملاحظات الآتية:
أولا: إن من حقنا أن نبكي علي أيام أبدي فيها المهدي الكبير أسفه لمقتل القائد البريطاني جوردون في الخرطوم, لأنه كان يريد أن يقايض به عرابي باشا في منفاه, ونبكي أيضا علي أيام ليست بعيدة عندما دفعت الجمهورية العربية المتحدة ـ مصر ـ بطلاب الكلية الحربية إلي جبل الأولياء لانها لم تجد من تأتمنه عليهم مثل الشقيق التوأم وننظر باحترام إلي الشعب السوداني الذي أعاد الثقة إلي جمال عبدالناصر في أمته بعد الهزيمة عندما استقبلته الجماهير السودانية الطيبة في شوارع الخرطوم علي نحو غير مسبوق في القمة العربية( أغسطس1967), يومها كان السودان يزهو برموز باهرة, فالشاعر محمد أحمد المحجوب رئيس وزراء يحترمه عبدالناصر بل ويتدخل لديه ذلك السياسي السوداني الراحل ليفرج عن بعض سجناء الرأي في مصر! لقد كان السودان كبيرا بساسته ومثقفيه وشخصياته المتوهجة بل إنني درست علي كاتب سياسي ودبلوماسي سوداني راحل هو جمال أحمد عندما كنت أدرس للدكتوراه في جامعة لندن,
كذلك ربطتني صداقات برموز مشرفة من ذلك البلد الشقيق أذكر منهم الصادق المهدي ومنصور خالد وإبراهيم طه أيوب وفاروق أبوعيسي وأحمد عبدالحليم وغيرهم من تلك الكوكبة التي أضاءت سماء المنطقة العربية والإفريقية.
ثانيا: أود أن أكون صريحا وأن اعترف بأن أشد فترات العلاقة توترا بين البلدين تبدو مرتبطة بالعقدين الأخيرين تحديدا ففيها ـ ولأول مرة ـ جري اختلاف علني بين الدولتين في سياستهما العربية والخارجية, بدءا من موقف الدولتين تجاه غزو العراق للكويت, كذلك فيها اتهام بضلوع النظام القائم لدي احدهما في محاولة اغتيال رئيس الدولة الأخري, وفيها جفوة وصدام وصلا إلي مسامع مجلس الأمن الدولي, وفيها أيضا اختلافات واضحة في الأيديولوجية الحاكمة والتوجه الحضاري لدي النظامين في القاهرة والخرطوم, فلقد انحاز السودان إلي جانب كثير من القوي المناوئة للسياسة المصرية ودورها التاريخي في العالمين العربي والإسلامي, وطفت مشكلات كثيرة علي السطح جري بسببها إغلاق بعض المؤسسات التعليمية المصرية في السودان والاستيلاء علي عدد من استراحات الري المصري في ذلك القطر الشقيق,
ومازلت أذكر عندما وفد الراحل أحمد عبدالحليم إلي فيينا سفيرا للسودان واستقبله السفراء العرب والأفارقة في قاعة الشرف بالمطار فإذا به يصافح الجميع وعندما يصل إلي يرمي بنفسه في احضاني بعاطفة صادقة وشعور حقيقي فهو ينتمي إلي جيل وحدة وادي النيل ويومها نظر إلينا الحضور في دهشة فقد كانت العلاقات بين البلدين في اسوأ أوضاعها مع بداية النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي عندئذ نظرت إلي الجميع قائلا: إنكم لا تدركون أبعاد ما بيننا ولا أعماق ما يجمعنا, لذلك تصورتم أن السحب القاتمة تمطر فقط ولكنها في بلادنا تتدفق في مجري النهر المشترك! ومازلنا نتذكر أيضا كيف وقف المندوب المصري أمام مجلس الأمن في تلك الفترة المظلمة معارضا فرض عقوبات علي ذلك البلد الشقيق قائلا: إلا السودان! يومها اندهشت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية والمندوبة الدائمة الأمريكية في الأمم المتحدة حينذاك
وقالت: إننا نتصور أن ما نقوم به هو ارضاء لمصر في ظروف تدهور العلاقات بين القاهرة والخرطوم, ولكن المندوب المصري الفقيه القانوني الدكتور نبيل العربي قال لها إن ما بيننا وبين السودان أكبر من أي حادث عارض واعمق من أن تهزه ظروف عابرة.
ثالثا: إن ما يواجهه السودان الآن هو موقف مؤلم ما كان للسودان أن يصل اليه حتي تجري المطالبة الدولية برئيسه لكي يمثل أمام المحكمة الجنائي,ة بينما مجرمو الحرب الحقيقيون يمرحون في شوارع إسرائيل يغطيهم دعم أمريكي ظالم, فالعدالة الدولية أصبحت انتقائية كما أن سياسة ازدواج المعايير أصبحت صارخة, كذلك فإن الكيل بمكيالين أضحي علنيا, من هنا كان من الطبيعي أن يقلق الجميع, فالسودان ـ أكبر دول إفريقيا مساحة وأكثرها احتفاظا بالثروات في اعماقه ـ مستهدف من كل اتجاه,
فالانفصال يتربص به في جنوبه والكارثة ألمت به في غربه والمجهول القادم يحمل في طياته اطماعا في بلد الطيب صالح الروائي الراحل الذي تشرفت به العروبة وإفريقيا معا والذي ينتمي إلي شعب عريق عرف الطرق الصوفية وعشق الأذكار الدينية وتذوق الشعر العربي وهام بالآداب والفنون, وظل عبر تاريخه جسر أمته العربية إلي إفريقيا ومعبر قارته الإفريقية نحو الشمال, وأنا لا استطيع أن أعفي أشقاءنا في الخرطوم من تحمل جزء من تبعة ما حدث فعندما لاحت في الأفق مشكلة دارفور كان يجب احتواؤها بشكل اسرع في إطار الأسرة السودانية أو العائلة الإفريقية علي أكثر تقدير,
أما تدويلها علي هذا النحو فقد فجر كل ينابيع الأحقاد الدولية والأطماع الإقليمية والمشكلات الداخلية, وإذا حدث لاقدر الله وأصيب السودان في وحدته أو عروبته فإن أهرام مصر سوف تهتز لذلك المصاب الجلل الذي يصيب الكنانة في مقتل!
رابعا: إن القضية ليست هي الرئيس عمر البشير ولكنها السودان, التاريخ والحضارة والمستقبل, إنها السودان التراث والشعب والغد, فمحاولة تقديم رئيس السودان للمحكمة الجنائية الدولية هي عملية تقويض مباشر لجهود السلام ومساعي رأب الصدع في الجنوب وفي الغرب, كما أنها تدخل بإقليم دارفور في غياهب صراع قد لاتكون نهايته قريبة, وحسنا فعلت حكومة الخرطوم عندما حاولت أخيرا تكثيف جهودها للملمة الجراح وحماية السكان وتحسين المواقف علي طريق التسوية, خصوصا أن بعض عناصر المعارضة علي الجانب الآخر قد ارتمت بشكل فاضح في أحضان الغرب بل وإسرائيل التي لاتضمر للسودان أو مصر ولا للعروبة أو الإسلام خيرا منذ قامت وإلي يوم الدين.
خامسا: كنت أتوقع أن يكون رد فعل الحكومة السودانية محسوبا وهادئا لايعرف الانفعال الزائد ولا المواجهة الصاخبة مع من يكيدون لها, وكنت أتصور أن تتعامل الحكومة السودانية مع الأمر بحكمة أكثر وحنكة أكبر, ولعلي أقول هنا إن قرار طرد بعض منظمات الإغاثة الدولية العاملة في دارفور ـ بغض النظر عما فعلته سلبا أو إيجابا ـ هو بمثابة إشارة خاطئة إلي المجتمع الدولي تضر أكثر مما تفيد, وتسيء إلي السودان الشقيق في ظروف شديدة الحساسية بالغة الخطورة, ولقد وقفت مصر بجسارة وقوة إلي جانب الشقيق التوأم في محنته القاسية برغم انتقادات علنية ـ لا مبرر لها ـ تصل اليها من الخرطوم, بل وأيضا بعض المواقف غير الودية من جانب عدد من أشقائنا هناك وهم لا يدركون أن ما بين مصر والسودان هو تزاوج أزلي يقترب من مقولة الكتاب المقدس إن ما جمعه الرب لا يفرقه إنسان. تلك رؤيتي ـ الشخصية ـ لتلك الظروف القاسية التي يمر بها اشقاؤنا في الجنوب وهي ليست كشف حساب ولا جلسة عتاب لأن ما بيننا وبينهم أقوي من الزمان والمكان لأنه يرتبط قبلهما بالإنسان!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/3/24/OPIN1.HTM