كثرت الأحاديث والكتابات حول الإدارة الأمريكية الجديدة, وسرت موجة من التفاؤل بين البشر لوصول باراك حسين أوباما إلي المقعد الأول في الولايات المتحدة الأمريكية, والذي يكاد يجعله ـ من الناحية الواقعية علي الأقل ـ رئيس العالم المعاصر! فنحن نعيش عصر السلام الأمريكيPaxAmericana بكل ما له وما عليه ولايعني ذلك نوعا من استسلام العجزة أمام القوة الأعظم, فنحن نؤمن بدورات الحضارات وبأن هناك أمما سادت ثم بادت, وندرك أن كل صعود قد يليه سقوط, ولعل الأزمة المالية العالمية الراهنة رسالة إلهية تنذر بقرب انتهاء الوصاية الأمريكية علي الإنسانية المقهورة والمضطهدة في انحاء العالم, نعود إلي باراك أوباما لكي نؤكد ان انتخابه رئيسا للإدارة الديمقراطية للسنوات الأربع القادمة في واشنطن يعني بداية سقوط حاجز العنصرية في المجتمع الأمريكي إلي الأبد, فبعد ما لايزيد كثيرا علي ثلاثين عاما من مصرع المناضل الإفريقي الأمريكي مارتن لوثر كينج صاحب الصيحة الشهيرة لدي حلم يتحقق ذلك الحلم بمجيء أوباما إلي سدة الحكم بما يعني أن الحاجز العنصري لم يعد له وجود ـ قولا وفعلا ـ في المجتمع الأمريكي,
وأنا لا أخفي اعجابي بالناخب الأمريكي في هذا الشأن برغم أن لنا عشرات الملاحظات علي السياستين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية, والآن دعنا نبحر قليلا في تفسير موجة التفاؤل التي احاطت بوصول أوباما إلي السلطة والتي رفعت سقف التوقعات وأحيت روح الأمل لدي مئات الملايين في تشكيل عالم مختلف, ولعلي أرصد ذلك من خلال الملاحظات الآتية:
أولا: إن جزءا كبيرا من فرحة الأمم وسعادة الشعوب بوصول أوباما إلي الحكم إنما يرجع بالدرجة الأولي إلي حجم الكراهية التي حملها الجميع لإدارة أمريكية سابقة, فلقد دخل جورج دبليو بوش في سجل التاريخ كواحد من أسوأ الرؤساء الأمريكيين, فلقد غزا الدول وأشعل الحروب وأذكي الفتن ودمر الاقتصاد العالمي نتيجة بعض الأفكار المريضة في عقله والهلوسات التي دفعه اليها مجموعة من سميناهم بـ المحافظين الجدد الذين لقنوه مزيجا غريبا من المشاعر الدينية مع عداء دفين للعرب والمسلمين تعززه حالة تعاطف شديدة مع الدولة العبرية واهتمام بأمنها وسلامتها دون النظر إلي معاناة الفلسطينيين أو احتلال إسرائيل لأراض عربية.
ثانيا: إن أوباما يبدو في نظر كثيرين ليس مجرد سياسي أمريكي إفريقي ولكنه يتجاوز ذلك لكي يصبح شعاع الضوء الوحيد في بحار الظلمات بدءا من أفغانستان مرورا بـ إيران فضلا عن الدور المتطرف في دعمه الأعمي لدولة إسرائيل, كما أن سياسة ازدواج المعايير التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا والغرب عموما قد أصبحت تصيبنا بالغثيان والشعور بأننا في غابة بدائية ولسنا في مجتمع دولي متحضر.
ثالثا: لا يبدو أوباما في نظري برغم الصلاحيات الواسعة للرئيس الأمريكي قادرا علي أن يغير العالم بعصا سحرية خلال أربع سنوات أو حتي ثماني, ذلك لأنه رئيس مهيض الجناح نسبيا ويمكن أن يخضع لابتزاز القوي اليمينية المتطرفة والجماعات الصهيونية المتوحشة, فإذا تحدث إلي إيران في حوار هاديء قالوا إنه باراك حسين وماذا ننتظر منه غير ذلك؟! وإذا أبدي بعض المرونة والاعتدال تجاه القضية الفلسطينية قالوا أيضا انه باراك ابن الإفريقي المسلم الذي يتعاطف مع أبناء قارته, إذ أن ثلثي العرب أفارقة! ولقد بدأت النغمة تعلو بالفعل فمن رسم كاريكاتيري فاحش يصور أوباما بالقرد الذي يجري إطلاق النار عليه إلي بعض تصريحات الغمز واللمز التي تريد أن تشوه ذلك الانجاز العظيم بوجود رئيس أمريكي إفريقي لأول مرة في البيت الأبيض, ومن هنا فإن حسابات باراك أوباما السياسية سوف تخضع دائما لعقد يعاني منها وضغوط يخضع لها مهما قيل في الأمر غير ذلك.
رابعا: إن الأزمة المالية العالمية, التي أطلت بوجهها الكئيب علي عالم اليوم كواحدة من مخلفات الإدارة الأمريكية السابقة ومغامراتها غير المحسوبة, سوف تستغرق بالضرورة جل وقت الرئيس الأمريكي فضلا عن تداعياتها علي القرار السياسي خصوصا فيما يتصل بالوجود العسكري الأمريكي, خارج أراضي الولايات المتحدة, وسوف تظل الأزمة المالية العالمية ذات أولوية علي أجندة المسئوليات الكبري للرئيس الأمريكي لأن المواطن الذي انتخبه جري وراء شعار التغيير الذي رفعه أوباما في حملته الانتخابية وأصبح يتلهف بالضرورة علي مظاهر الإصلاح الاقتصادي والعلاج العاجل لتداعيات الأزمة المالية, ولن يستطيع الرئيس الأمريكي إعطاء الأولوية لأية قضية خارجية أو مسألة داخلية مادام شبح الأزمة يطل علي الاقتصاد اليومي في كل مكان.
خامسا: إنه من الواضح أن الوضع في أفغانستان والعنف المتنامي علي حدود باكستان يمثلان هاجسا مهما علي أجندة الإدارة الأمريكية التي عبرت عن ذلك صراحة, علي اعتبار ان الوضع في العراق قد أخذ يتجه نحو الهدوء النسبي, حيث أصبح رحيل القوات الأمريكية مقررا بشكل نهائي في عام2011, بينما تظل المسألة الأفغانية مصدر اضطراب حقيقي في ظل وجود فلول تنظيم القاعدة وعنف حركة طالبان في بلد يستعصي بطبيعته علي الغزاة منذ فجر التاريخ, فضلا عن بقايا المعركة الطويلة ضد ما اسمته الإدارة الأمريكية السابقة بـ الإرهاب الدولي, ثم تأتي بعد ذلك القضية الفلسطينية ومجمل الوضع في الشرق الأوسط لكي تكون البند الثالث علي جدول أعمال الإدارة الديمقراطية في واشنطن في أحسن الأحوال!
سادسا: إن شهر العسل التقليدي في بداية الإدارات الأمريكية المختلفة والذي يجري حسابه بالمائة يوم الأولي قد يبدو حتي الآن طبيعيا مع هبوط محدود في شعبية الرئيس الجديد وهذا أمر طبيعي أيضا علي اعتبار ان شعبيته تكون في حدها الأقصي عند نقطة البداية, ولكن الملاحظ هو أن المتربصين بالرئيس الأمريكي الجديد قد بدأوا يكشفون عن وجههم القبيح, ولعل الكاريكاتير الذي أشرنا اليه والذي جري فيه تصوير أوباما علي هيئة قرد يجري إطلاق النار عليه هو تصوير مستوحي من اللاوعي عند بعض الأمريكيين الذين لم يتعودوا بعد علي رؤية رئيس أسود في البيت الأبيض.
سابعا: إن أوباما ذاته قد بدأ يتأقلم مع المنصب بل ويمضي في طريق ليس كله اتجاها للتغيير وسوف يتراجع بالضرورة في بعض وعوده الصاعدة, لأن من يده في الماء ليس كمن يده في النار. كما أن خطط الحملة الانتخابية تختلف عن الممارسة الفعلية في كرسي الحكم, ومع تسليمنا بأنه يتبني بعض الأطروحات الإنسانية الراقية مثل موضوع الاقتصاد الأخضر والعمل علي حماية البيئة في ظل التوحش الصناعي رغم ظروف الأزمة المالية, فهذه ايجابية نعترف بها له ولكننا في الوقت ذاته لانراه يمضي في تعهداته الأخري بدءا من إغلاق معسكر جونتانامو وصولا إلي الوضع في الشرق الأوسط مرورا بكثير من القضايا الدولية الراهنة.. هذه ملاحظات أردنا بها التوثيق لرؤيتنا حول السيد الجديد في واشنطن, واسجل أننا لانزال متحمسين له وسوف يزداد حماسنا لو اختار القاهرة مكانا يطلق منه رسالته المنتظرة ـ والتي وعد بها ـ إلي العالم الإسلامي فــ القاهرة عاصمة الأزهر الإسلامية المتميزة وقيادة إفريقيا المتحررة وقلب العالم العربي النابض,
وأكبر دولة في جنوب المتوسط وهي القائدة في الحرب والرائدة في السلام لذلك تبدو في نظري أكثر استحقاقا بهذه المناسبة من اسطنبول, مقر آخر خلافة إ سلامية, وأيضا من الدار البيضاء باعتبارها أول نقطة تماس إسلامي علي المحيط في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية, كما أن جاكرتا عاصمة أكبر دولة إسلامية من حيث العدد لاتضاهي القاهرة مكانا ومكانة حتي ولو كان أوباما قد قضي فيها بعض سنوات طفولته.
أيها السادة إنني سعيد كإفريقي بوجود أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ولكنني أدرك في الوقت نفسه أنه يترأس دولة مؤسسات راسخة لايستطيع الفرد فيها أن يغير السياسات القائمة بين يوم وليلة, فلا تفرطوا في التفاؤل وليكن سقف توقعاتكم مرتبطا بحدود الأمل في التغيير الممكن وليس التحول المستحيل!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/3/10/OPIN1.HTM