سوف أتطرق إلي موضوع شائك تحوطه محاذير كثيرة ولكنني رأيت أن فتح هذا الملف خير من التهامس عنه والدوران حوله, وأعني بذلك زيارة بعض الشخصيات المرموقة دوليا والمعروفة عالميا من أبناء مصر الذين نالوا تقديرا دوليا كبيرا وأصبحوا يتمتعون بشعبية واسعة في الشارع المصري, وسوف أختار نموذجين أعرفهما جيدا وأستطيع الكتابة عنهما وعن دورهما في حياتنا في ظل الظروف التي تمر بها مصر داخليا وخارجيا, وأعني بهما صاحبا نوبل من المصريين الأحياء الدكتوران أحمد زويل و محمد البرادعي, ولعل دافعي إلي الكتابة هو دعوتي إلي كل الطيور المهاجرة للإسهام في حياة هذا الوطن والأرتقاء بحياة شعبه الذي يستحق منا جميعا كل عناية وإهتمام لأنه شعب تتلخص فيه كل مظاهر الحياة البشرية علي الأرض سعيدة وتعيسة, هنية وبائسة, وأود أن أوضح بداية أن سماء الوطن تضم كوكبة أخري من أبناء مصر العظام في المجالات المختلفة وربما لأنهم يعيشون داخل الوطن ولم ينالوا التكريم من خارجه بالقدر الكافي فلم يحصلوا علي نفس القدر من الحفاوة والإهتمام, ولعلي أوضح ما أهدف إليه من خلال النقاط التالية:
أولا: إن الوطن حق لكل أبنائه وهو أيضا ينتظر منهم في المقابل ـ وبغير استثناء ـ عطاء يعادل اهتمامهم به وتطلعاتهم له كما أن المسئولية تتزايد بقدر ما يحوزه المواطن من علم وثقافة وانفتاح علي العالم, لذلك فإن ما هو مطلوب من أمثال زويل و البرادعي يتجاوز ما هو مطلوب من غيرهم كدور تنويري وتعليمي وفاء لوطن خرجوا منه وارتبطوا باسمه شريطة ألا يقف الأمر أمام شبهة التطلعات, ولكن يبقي دائما أمام مسئولية التضحيات, وهذه نقطة هامة إذ إنني لا أتصور أن زويل أو البرادعي أو غيرهما يعود إلي وطنه ساعيا إلي موقع أو طالبا لمنصب, فقد اعطتهم الدنيا من التكريم ما يجعلهم بمنأي عن ذلك, ولكنهم يدركون ـ وتلك مسئولية أهل العلم ـ أن مصر بحاجة إلي كل أبنائها مع إفراط مطلوب في الإيثار ونكران الذات والتجرد الكامل من أية طموحات لا مبرر لها بل ولا جدوي منها!
ثانيا: إنني أظن أن هناك مسئولية علي أبناء مصر المتميزين قبل غيرهم, نعم.. قد تختلف رؤاهم مع ما يجري في الوطن وقد تكون لهم ملاحظاتهم علي الأداء الحكومي وهذا حق مشروع للمواطنين ـ كل المواطنين ـ ولكن يتبقي ذلك الجزء المنتظر ممن حازوا مكانة دولية وشهرة عالمية في مجالات العلم والممارسة المهنية, ولقد عشت سنوات من حياتي في الهند ورأيت كيف أن العلماء الهنود في الخارج والشخصيات المرموقة من أبناء ذلك البلد الضخم يعودون اليها من وقت إلي آخر وبشكل منتظم يقدمون العطاء ويبذلون الجهد ويدفعون الضريبة لوطن أعطاهم في البداية فأصبح من حقه أن يأخذ منهم في النهاية.
ثالثا: لا أظن أن عالما مثل أحمد زويل بعدما نال من المكانة العلمية والأعتراف الدولي بحاجة إلي منصب رسمي داخل وطنه فقد أعطته الدنيا ما يستحق وأصبح عليه أن يعطي وطنه ما يستحق أيضا, وقد يقول قائل ـ بحق ـ ولكن زويل اعترضته عقبات إدارية ومواقف روتينية حالت بينه وبين العطاء المنتظر لوطنه وجامعاته وأبنائه, وهنا أقول علي الفور إن علينا جميعا أن نتعامل مع الواقع وأن نسعي لإصلاحه بدلا من أن نرفضه في موقف سلبي يكتفي بالانتقاد ويجأر بالشكوي! ولأن الدكتور أحمد زويل صديق وزميل دراسة فإنني أدرك حجم آماله الواسعة لوطنه وأحلامه الكبيرة في البحث العلمي بل والعمل السياسي أيضا, ولكنه يدرك في الوقت ذاته أن مصر ليست الولايات المتحدة الأمريكية وأننا شعب اشتغل تاريخيا بصناعة الحضارات وعليه أن يصل مستقبله المشرق بماضيه التليد, وهنا يجب أن أعطي أحمد زويل حقه, فالرجل ليس عالما فقط ولكن فيه مسحة المفكر صاحب الرؤية الشاملة,
ولقد تابعت محاضرته الأخيرة في دار الأوبرا بالقاهرة ورأيت قدرته الهائلة علي الربط بين العلم والفكر و الثقافة في منظومة واحدة قد لا تتوفر لسواه, ولكني أهمس في أذنه ترفق أيها الصديق بوطن مثقل الأعباء يحتاج إلي كل حجر للبناء ومن يريد أن يتصدي للعمل العام عليه أن يكون مستعدا لاستقبال الانتقادات والأفتراءات بل والأكاذيب أيضا.
رابعا: إن رجلا بقامة محمد البرادعي وهو صديق قريب إلي قلبي وعقلي في وقت واحد أري في شخصيته ملامح الصوفية الإنسانية والزهد الحقيقي, إذ مازلت أذكر معركته مع الموقع الرفيع ـ الذي يشرفنا جميعا حيازته له ـ وكيف دخل انتخاباته عاريا من غطاء الوطن مهيض الجناح, وأحمد الله أنني كنت نصيرا له من البداية حتي النهاية إيمانا مني بكفاءته العالية وقدراته الهائلة وشخصيته الدولية المتوازنة فضلا عن خلق رفيع وحس إنساني متوهج, لذلك لا أظنه علي الإطلاق متطلعا لموقع سياسي أو دور حكومي, فقد أعطاه المجتمع الدولي ما لم يصل إليه سواه احتراما وتقديرا وعرفانا, وأنا أعرف أن لديه تصورات إيجابية كثيرة من أجل وطنه وأفكارا عصرية أعلنها في كل المناسبات مع استعداد لخدمة هذا الوطن العظيم بدءا من العشوائيات وصولا إلي الجامعات دون النظر إلي عائد ذاتي أو غاية شخصية, ولئن اختلفت وجهات نظره أحيانا مع ما يدور في ساحة الوطن فليس ذلك إنكارا للجهود المبذولة أو انتاقصا من قدر حكومة قائمة, بل هي الدوافع الوطنية التي تشاهد العالم يلهث من حولنا سريعا ويتعين علينا اللحاق به مهما كانت المصاعب والتحديات.
خامسا: إنني أدعو صراحة إلي توظيف جهود أبناء مصر اللامعين كل في ميدانه, ولقد اخترت هذين النموذجين لابنين بارين من هذا الوطن العجوز وهما الأحياء من حاملي نوبل بين المصريين, وأضيف إلي ذلك نقطة هامة يجب ألا تغيب عنا جميعا وهي أن رئيس الدولة المصرية قد كرمهما مثلما كرم الأديب الراحل نجيب محفوظ قبلهما بأرفع الأوسمة وأعلي النياشين وأقام لكل منهم حفلا راقيا تشرفت بحضوره وأيقنت أن الترحيب بهم يأتي من أعلي مستوي في البلاد, إذن فليتوقف الوسطاء وليصمت المرجفون الذين يحاولون دق إسفين بين الدولة المصرية وأبنائها المتميزين الذين يحتاج الوطن الي علمهم وفكرهم ومكانتهم الدولية وأسمائهم الساطعة في سماء الدنيا فكيف يحجبون الضياء عن سماء الوطن؟!
.. إنها خواطر ألحت علي وأنا أستقبل الصديقين أحمد زويل و محمد البرادعي في نفس الأسبوع تقريبا وكأنما هو موسم الهجرة إلي الجنوب, خلافا لموسم الهجرة إلي الشمال كما رأها الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح, إنني أريد أن أقول عن يقين إن أمامنا فرصة طيبة لتعظيم الفائدة من الطيور المهاجرة من أجل إعادة إنتاج الدور التنويري والتثقيفي والتعليمي في المنطقة وتلك كانت ولا تزال مكونات أساسية في الدور المصري عربيا وإقليميا, إننا يجب أن نحتفي بأبنائنا القادمين إلينا للزيارة وربما يوما ما للإقامة الدائمة, ولعل اقتران زيارة زويل مع زيارة البرادعي في وقت واحد هو مؤشر لجاذبية الوطن حتي ولو كان السبب هو حضور اجتماع مجلس أمناء الجامعة الأمريكية, ويجب أن ننظر إلي ما قالاه برحابة صدر وسعة أفق,
وأن نوظف دورهما ـ ومعهما عشرات الشخصيات المصرية المرموقة والمبعثرة علي خريطة الدنيا في الجامعات ومراكز الأبحاث والمنظمات الدولية ـ لكي يكونوا رصيدا حقيقيا لوطن يحتاج إلي كل أبنائه بغير استثناء وعقول أجياله المتعاقبة دون استبعاد, ألم أقل لكم من البداية أن النجوم المصرية الساطعة لابد أن تعكس ضوءها علي ملايين الفقراء من الشباب ذوي الد خول المحدودة والفرص المتراجعة, إنها في النهاية مصر تدعو أبناءها إلي عرين الوطن عطاء ودعما وحبا!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/2/24/OPIN1.HTM