عائد انامن زيارة للدولة التركية ضمن وفد رسمي برلماني برئاسة رئيس مجلس الشعب حيث قضينا وقتا في كل من انقرة واسطنبول ولابد ان اسجل هنا ان لي اهتماما خاصا بتاريخ الدولة العثمانية ودورها في الشرق الاوسطوالبلقان واعيا بالبصمات القوية التي تركتها اخر دولة للخلافة علي العالمين العربي والاسلامي, مدركا ومتابعا لحجم الندم الذي تبديه بعض الكتابات الغربية الحديثة وهي تتباكي علي الدولةالعثمانية باعتبار انها كانت مظلة تجمع تحتها الشعوب الاسلامية وتستر عوراتها وتقوم بتجريد حملات التأديب ضد بعضها اذا خرجت عن السياق او تطاولت علي عرش الخلافة العثمانية, وتضيف الكتابات الغربية الحديثة ايضا ان ظاهرة التطرف الاسلامي ماكان لها ان تنمو وتزدهر تحت عباءة السلطنة العثمانية, فلقد كانت عمامة الخليفة رمزا للدولة الاسلامية علي نحو يريح الضمائر ويسكت الالسن ويدللون علي ذلك بميلاد حركة الاخوان المسلمين في مصر بعد سنوات قليلة من سقوط الخلافة العثمانية علي يد مصطفي كمال اتاتورك القادم من اقليمسالونيك خارج هضبة الاناضول والتابع لليونان والذي رددت بعض الكتابات ان امه كانت يهودية,
وان كنت شخصيا اشك في هذه المعلومة لانني رأيت صورتها في المتحف الملحق بمقبرته وهي سيدة تركية مغطاة الرأس تبدو من ملامحها سمات المسلمات في تركيا اثناء القرن التاسع عشر, كماانها تحمل اسما اسلاميا لاشبهة حوله, ولقد صاحب زيارتنا الي الدولة التركية ذلك الصخب العالي والضجيج الواسع الذي اقترن بانسحاب السيد رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي من منتدي دافوس عقب الملاسنة التي جرت بينه وبين الاسرائيلي العجوز شيمون بيريز رئيس الدولة العبرية الذي كان يتحدث عن محرقة غزة قائلا: اننا لم نضع النساء والاطفال الفلسطينيين في حصار افران الغاز مثلما جري لنا في الهولوكوست!
وسط تصفيق الحاضرين تعبيرا عن الانحياز الدولي لاسرائيل والعبث الذي صنعه الاعلام الصهيوني في ضمائر مئات الملايين من انحاء العالم, وتعليقا علي ذلك الحادث وانطلاقا من الصراع القائم بين التيارين العلماني والاسلامي في الدولة التركية وتأسيسا علي العلاقة بين الماضي والحاضر و تمهيدا لفهم المستقبل وطبيعة الدور التركي في الشرق الاوسط فإننا نتقدم بالملاحظات التالية:
اولا: واهم من يتصور ان ماقاله السيد اردوغان فيدافوس وكلمته امام الجمع الحاشد من مستقبليه فياسطنبول ـ وغالبيتهم من اعضاء حزبه ـ ان ذلك تعبير رسمي عن الدولة التركية التي لم تعد مقرا للخلافة الاسلامية, بل اصبحت نموذجا لسيطرة التيار العلماني الذي زرعه أبوا لاتراك اتاتورك واضعين في الاعتبار ان الجيش التركي هو حامي المباديء التركية وحارس العلمانية, فأنت تستطيع هناك ان تنتقد من تريد, اما اذا وصل الامر الي الزعيم المقدس مؤسس تركيا الحديثة فأتت ترتكب الخطيئة بعينها ولك الجزاء المناسب لها.
ثانيا: انني اظن ـ من خلال مارأيت وسمعت ـ ان اردوغان سوف يدفع ثمن موقفه المشرف وكلماته المضيئة, فالتيار العلماني الذي كان يتربص به قد وجد الفرصة الآن لتوجيه ضربة له في الوقت المناسب, ولقد استمعت شخصيا الي انتقادات حادة لتصرف اردوغان من بعض المسئولين الاتراك الذين انتقدوا كلماته وانسحابه معا, ورأوا فيما فعل خروجا علي التقاليد العلمانية, كل ذلك برغم ان اردوغان يملك رصيدا تاريخيا ضخما منذ ان كان المسئول الاول عن مدينة اسطنبول العاصمة الحقيقية للدولة التركية.
ثالثا: يجب ان اعترف هنا ان نموذج الاسلام السياسي فيتركيا والذي يحكم حاليا مازال يتمتع بشعبية كبيرة نتيجة ضربه للفساد وتحقيقه للازدهار الاقتصادي حتي تردد ان الدخل القومي التركي قد تضاعف في العقدين الاخيرين, ولاشك ان ذلك قد بدأ منذ ايام الرئيس الراحل تورجت اوزال الذي اقترن اسمه ببداية تحقيق المعجزة الاقتصادية التركية في ثمانينات القرن الماضي, كما ان هناك دعما واضحا لحزب العدالة والتنمية الحاكم من كبار رجال الاعمال و المستفيدين من الانفتاح التركي علي دول الشرق الاوسط خصوصا منطقة الخليج العربي التي اصبحت سوقا رائجة للمنتجات التركية.
رابعا: ان علاقة الدولة التركية بالدولة العبرية علاقة استراتيجية لااظن ان مافعله اردوغان سوف تؤثر عليها خصوصا وان تركيا هي الدولة المسلمة الوحيدة في حلف الاطلنطي والمتطلعة بشغف شديد الي عضوية الاتحاد الاوروبي وكأن لسان حالها يقول ان عقلي وقلبي مع اوروبا, ولكن معدتي واحشائي يقبعان في الشرق الاوسط. ان تركيا باختصار تقبل ان تكون في مؤخرةاوروبا بدلا من ان تكون في مقدمةالشرق مجالها الحيوي تاريخيا وانسانيا وتجاريا, لذلك حرص الاتراك علي توازن موقفهم تجاه الصراع العربي الاسرائيلي علي نحو يسمح لهم بلعب دور الوسيط عند اللزوم كما حدث مؤخرا بين سوريا واسرائيل
خامسا: ان النموذج التركي قد سيطر علي خاطري نهارا واحلامي ليلا, وانا اري دولة قد قطعت شوطا كبيرا في الصناعة وميدان التكنولوجيا الحديثة بل والثقافة والفنون ايضا, واتطلع الي قباب ومآذن مساجد سلاطينها وصوت الاذان يجلجل في الطرف الجنوبي الشرقي من اوروبا المعاصرة عندئذ ادرك ان التيارات الاسلامية في بلادنا لاتعيش روح العصر ولاتتكيف مع الديمقراطية الحديثة بل تفضل الصدام بالسلطة في دائرة شريرة لم تعطهم شيئا علي مدار ثمانين عاما مضت الا العنف والمطاردة والسجون وإضعاف الحياة الأساسية في بلادهم وايقاف تقدمها خصوصا في مجال الديمقراطية والمشاركة السياسية الحقيقية, لقد أدركت في زيارتي الاخيرة ان الاتراك ـ علمانيين واسلاميين ـ يمضون علي الطريق الصحيح ويستفيدون من كل معطيات العصر وادواته, و لايعيشون الماضي وحده بكل سلبياته, و لقد شعرت بالتنافس المكتوم بين انقره وطهران والمخاوف الصامتة من البرنامج النووي الايراني رغم ان التعاون بينهم ظاهريا نشط ومشهود, لان تركيا تعتمد علي البترول الايراني وتستند في صناعاتها علي مصادر الطاقة التي تستوردها من ذلك القطر الاسلامي الشيعي الكبير,
ولم يتحدث الاتراك يوما عن مذهبهم السني في مواجهة الدولة الايرانية لأن الاسلام المحايد كمانسميه قد اعطاهم الحكمة والواقعية في التعامل مع الاخرين.
انني اعود من تركيا احمل مشاعر متناقضة وافكارا متباينة حول دور ذلك البلد الكبير الذي اثر في تاريخ المنطقة شرقها وغربها, حتي انه عندما كنا نزور المكتبة الوطنية في العاصمة البلغارية صوفيا رأينا هناك مخطوطات عربية وتركية ذات قيمة عالية في تاريخ الحضارة الاسلامية التي فردت جناحيها من اواسط اسيا شرقا الي حدود النمسا غربا وكادت تتواصل مع بقايا الوجود الاسلامي في الاندلس, انها تركيا ذلك الكيان السياسي القوي, والدولة شديدة المراس, التي استطاعت ان تقول للولايات المتحدة الامريكية( لا) في مناسبات كثيرة, رغم التحالف العسكري والارتباط السياسي, انها الدولة التركية التي تنظر الي مصر باحترام وتري ان القاهرةوطهران وانقرة تمثل رؤوس المثلث القوي في شرق المتوسط, كما أنها أيضا هي الدولة التي استطاعت ان تقدم نموذجا للاسلام المعتدل علي نحو اصبحت له جاذبيته وبريقه حتي لدي النظم الغربية المسيحية, واذا كانوا يقولون دائما ان الموتي لايحكمونالا انني اكتشفت ان اتاتورك مازال يحكم من قبره,
بل انني اتخيله وهو ينظر الي رجب طيب اردوغان معاتبا علي موقفه الذي يعيد الي تركيا شخصيتهاالاسلامية ذات البعد العربي بدلا من شخصيتها التورانية ذات البعد العلماني.. ألم اقل منذ البداية انني عائد من تركيا وانا اراها بدءا من اتاتورك وصولا الي اردوغان؟!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/2/10/OPIN6.HTM