عندما كنت مستشارا للسفارة المصرية في الهند منذ أكثر من ربع قرن مضي كانت القضية الفلسطينية حية في سياسات الدول الكبري وأجندات المنظمات الدولية, وأتذكر جيدا أن سفير فلسطين عندما كان يطلب لقاء رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي كان يلتقيها في ذات اليوم, ويعطي أولوية علي سواه لان القضية كانت ذات طابع سياسي متمتعة بتأييد من الصين و الهند ومعظم الدول الاوروبية فضلا عن بقية الدول الآسيوية والافريقية وعدد من دول أمريكا اللاتينية, أما الآن فقد اختلفت الصورة فهبطنا من مستوي التأييد السياسي الفاعل إلي مستوي التعاطف الانساني المنفعل! وحتي في اطار مجموعة الدول الإسلامية فقد جري اختزال القضية في بعدها العاطفي, ولم تعد تتمتع بذلك الرصيد الهائل الذي عرفته في العقود الماضية عندما خاطب القائد الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات المجتمع الدولي من فوق منبر الامم المتحدة, وعندما تحدث أيضا الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون أمام المجلس الوطني الفلسطيني اعترافا بالجانب السياسي للقضية, وإدراكا لأهميتها,
حيث تمكن النضال الفلسطيني المحسوب من الارتقاء بتلك القضية والارتفاع بها من مشكلة حدود إلي حقيقة وجود ومن مسألة لاجئينإلي قضية وطن.
وقد شاءت لي ظروف عملي في البرلمان المصري أن أزور الهند مرة أخري بعد انتهاء خدمتي فيها بأكثر من عشرين عاما, واستقبلني أثناء الزيارة السفير الهندي المعروف مشرا مستشار الأمن القومي للدولة الهندية حينذاك, والذي كان مندوبا لبلاده لدي الأمم المتحدة من قبل, وراعني أنه استهل حديثه معي بقوله ان علاقات إسرائيل بالهند ممتازة وان بينهما تعاونا في جميع المجالات بما في ذلك المجال العسكري, وأن الدولتين نوويتان لاحاجة لاحدهما بالآخر من الناحية التقنية ثم أضاف في مجاملة شكلية يغطي بها دهشتي الواضحة من هذا الاستهلال الحاد قائلا: ومع ذلك فنحن مازلنا نتمسك بمجمل قرارات الامم المتحدة الخاصة بالحقوق الفلسطينية! يومها ترحمت علي أيام مضت عارضت فيها الهند اتفاقيات كامب ديفيد في مزايدة علي الدور المصري كنوع من المغالاة في تأييد الحقوق الفلسطينية المشروعة, وازدادت دهشتي مرة أخري عندما أمضي رئيس وزراء الصين خمسة أيام كاملة في زيارة لإسرائيل مشيدا بتقدمها التكنولوجي وتفوقها العسكري, وهو الذي يجلس علي مقعد شو إن لاي الذي كان ضمن الدائرة الضيقة المحيطة بالدور المصري في العصر الناصري والداعمة بقوة للحقوق الفلسطينية,
ووجدتي أتساءل من جديد: لماذا هوت هذه القضية الكبيرة من علياء العلاقات الدولية إلي ملفات منظمات الاغاثة الانسانية! واستطعت أن أستخلص عددا من الاسباب التي أدت إلي تردي القضية من جانبها السياسي المؤثر إلي جانبها الانساني المتأثر! ويمكن أن أجمل ذلك في النقاط التالية:
ـ أولا: إن إسرائيل ـ ذلك الكيان الاستثنائي الاستيطاني العدواني ـ قد صدرت للعالم بعد عام2000 رسالة إعلامية مغلوطة مؤداها ان الدولة العبرية قدمت للفلسطينيين بعد كامب ديفيد الثانية وفي الاسابيع الاخيرة لإدارة كلينتون في فترته الاخيرة ما لم يحققوه عبر تاريخ القضية الطويل, وان عرفات لم يرتفع إلي مستوي المسئولية وأضاع الفرصة علي شعبه مثلما هو العهد بالعرب دائما في اضاعة الفرص ثم التباكي عليها بعد ذلك, وواقع الأمر ان هذه رسالة إعلامية مسمومة ولكن للأسف ابتلعتها العواصم الكبري في العالم كله, وجري بعدها دخول القضية الفلسطينية في نفق مظلم وتراجع التأييد السياسي لها وفقدت قدرا كبيرا من الاهتمام الدولي بها, كما دخلت الساحة الفلسطينية في دوامة العنف بانتفاضة الاقصي بعد الزيارة الاستعراضية الاستفزازية التي قام بها شارون للحرم المقدسي وأدت إلي اندفاع موجة العنف العارمة في الاراضي المحتلة, والعجيب ان العرب والفلسطينيين لم يتمكنوا من توجيه رسالة إعلامية مضادة تكشف زيف إسرائيل وكذب ادعاءاتها,
فاستقرت المعلومات الخاطئة في وزارات الخارجية لدي الدول المختلفة بما في ذلك الدول الآسيوية والافريقية بل والاسلامية أيضا!
ثانيا: إن تديين الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي قد قدم من حيث لانشعر خدمة كبيرة للاحتلال الاسرائيلي واستمراره, خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001, حيث ربطت الدوائر المعادية للاسلام بين أتباعه وظاهرة العنف المتنامي في العالم كله, وجري ذلك الخلط الخبيث بين الكفاح الوطني المسلح والعمل الارهابي العشوائي, كما أسهمت العمليات الانتحارية في تأكيد هذا المعني وترسيخه لدي أولئك الذين لايعرفون تفاصيل القضية ولايفهمون صحيح الاسلام, وبالمناسبة فانني ممن يعتقدون ان الصراع السياسي يرتبط بفكرة الوطن أما الصراع الديني فهو توظيف للعقيدة في غير موضعها ومحاولة لتقزيم القضية وتخفيض عدد المناصرين لها, فعندما نتحدث عن وضع القدس مثلا فإن دعاة الكفاح علي أساس ديني سوف يدفعون تلقائيا بالتاريخ الروحي للمدينة, بينما يقف السياسي علي الجانب الآخر من النهر مطالبا باسترداد ما جري احتلاله في الخامس من يونيو وفقا لقراري مجلس الأمن242 و338, ولا بأس من أن تأتي الدفوع الدينية بعد ذلك لان العالم يفهم لغة السياسة, ويختلف أمام لغة الدين,
ثم إنني أكرر ايماني الحاسم بأولوية التعبير السياسي عن الوطن قبل التعبير الديني عن العقيدة, فالدين لله وحده أما الوطن فللجميع, وليت المناضلين في فلسطين حفظوا العقيدة في قلوبهم وجعلوا السياسة محركا لعقولهم من أجل نضال يجمع ولايفرق, يوحد ولايشتت.
ثالثا: إن ماجري في منتصف يونيو2007 بالانقلاب الذي حدث في غزة ووضعها تحت سيطرة حركة حماس خارج اطار السلطة الفلسطينية الشرعية قد أدي بدوره إلي انتكاسة حقيقية للقضية واختزلها في فصيل واحد ومعبر واحد, وأطاح بمعالم الكفاح الوطني ضد الاحتلال كما يراه العالم المعاصر, ومن عجب أن الكثيرين يتحدثون عن تداعيات ذلك الانقسام الفلسطيني دون ان يبحثوا في أسبابه, ثم يلقون باللائمة في النهاية علي حمالة الإساءات و مشجب الخطايا العربية وهي مصر كنانة التضحيات وصانعة الحضارات وحامية التاريخ.
رابعا: ان الانقسام العربي ليس جديدا كما أن الخلافات العربية ظاهرة مألوفة في العقود الاخيرة, ولكن المدهش حقا هو أن تصنيف المواقف لم يعد سهلا, فتستطيع أن تجد دولة شديدة الحماس لـ حماس وشديدة القرب من إسرائيل وركيزة للوجود الامريكي العسكري في المنطقة, ومع ذلك فهي تلوك الشعارات القومية وتصك المواقف الحدية, ولا أحد يفتش في الخلفيات, ويبحث في التاريخ القريب, ليدرك ان إضعاف مصر هو هدف لأطراف كثيرة معظمها أجنبي وبعضها عربي أيضا, لذلك فان الرصانة السياسية يجب أن تتغلب علي الرطانة اللغوية إذا ما ارتبط الأمر بحقوق الاوطان ومصائر الشعوب.
خامسا: لابد أن أعترف أن جزءا كبيرا من أسباب ما جري ومايجري إنما يعود إلي البيئة الدولية الحاضنة, والمناخ الدولي السائد والذي أفرز واحدة من أسوأ الادارات الامريكية علي الاطلاق, وأعني بها الادارة الراحلة للرئيس بوش الابن فضلا عن تراجع حركات التحرر وسيادة العنف, وانتشار ظواهر التدخل العسكري في مناطق كثيرة من العالم, وعلي نحو غير مسبوق, فضاعت في الزحام أولوية القضية الفلسطينية, وتقدمت عليها أجندة ما يسمي مكافحة الارهاب علي سلم أولويات القوي الأعظم والقوي الكبري التابعة لها, ولم نفطن نحن العرب والفلسطينيين معا إلي ان المقاومة الشرعية للاحتلال هي عملية واعية وعاقلة تخضع لحسابات مفهومة, وليست مجرد إسراف في تحمل نزيف الدماء واستقبال الأشلاء والاستسلام للعواطف الحزينة واستمراء الحديث عن التضحيات دون مردود سياسي أو عائد وطني... تلك أسباب أراها تقف وراء هبوط القضية العربية الاولي من مستواها السياسي الدولي إلي منعطف انساني يعرف من العواطف أكثر مما يدرك من الحقائق, ويخاطب القلوب دون ان يصل إلي العقول..
وليدرك الجميع أننا نتطلع إلي احترام العالم أكثر من حبه لنا ونسعي لاستعادة الحقوق بدلا من استقبال
نظرات التعاطف وشعارات التأييد النظري وكلمات المواساة التي لاتفيد.. إننا نريد للقضية الفلسطينية ان تعود إلي وزنها الحقيقي وحجمها الطبيعي بعد أن عبثت بها الخطايا العربية والاخطاء الفلسطينية والظروف الدولية
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/1/27/OPIN1.HTM