مررت شخصيا بتجربة الانتخابات لمجلس الشعب عام2005 في واحدة من أصعب الدوائر وأكثرها سخونة لأسباب تتصل بالتاريخ السياسي للمحافظة ـ التي أتشرف بالانتماء إليها ـ وتغلغل جماعة الإخوان المسلمين فيها بل أيضا بعض العناصر الوفدية القديمة بها, فالمدينة التي أمثلها كانت عبر تاريخها الطويل أقرب إلي المعارضة منها إلي دعم سلطة الحكم, ورغم ثرائها من الموارد البشرية والطبيعيةإلا أنني شعرت أن دائرتي الانتخابية لديها تحفظ غريزي تجاه من يأتيها من خارجها حتي لو كان من أبنائها الذين خرجوا منها ليضربوا في الأرض سعيا وراء علم أوعمل أو رغبة في حياة جديدة ومستقبل مختلف,
ولقد خرجت من هذه التجربة بكل مالها وماعليها بتساؤل واحد يتلخص في سؤال محدد: هل الانتخابات هي الوسيلة الأفضل للتعبير الديمقراطي؟ إنني أعلم يقينا أنها أفضل البدائل وأقل الشرور واكثر الوسائل تعبيرا عن الشارع حتي الآن, فقد اتفقت عليها الأمم المتحضرة والشعوب الناهضة طريقا للمشاركة السياسية وسبيلا للتمثيل النيابي, وبرغم كل العيوب التي تصاحب العملية الانتخابية ومبررات النقص فيها إلا أنها تظل أحسن ماوصل إليه خبراء علم السياسة وأساتذة القانون العام, ولكن تبقي ملاحظات لابد من أن نسجلها بتجرد وموضوعية خصوصا وأننا نستقبل انتخابات نيابية ليست بعيدا, كما أن الوطن يمر بفترة مهمة في تاريخه المعاصر, ولعلي أوجز تلك الملاحظات التي أود أن أشير إليها فيما يلي:ـ
أولا: إن القول الذي يطلقه البعض عن أن هناك شعوبا لاتصلح معها الديمقراطية لأنها ليست من أولوياتها بسبب شيوع الفقر أو نقص التعليم أو انتشار الأمية هو قول مردود عليه تماما, والنموذج الهندي ـ أكبر ديمقراطيات العالم ـ يقدم صفعة قوية لدعاة هذا الرأي بل ولطمة كبيرة لمن يعتقدون ان الديمقراطية خيار مناسب لبعض الشعوب ونقمة علي شعوب أخري, ولقد عايشت التجربة الهندية مباشرة ـ من خلال عملي في نيودلهي نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي ـ ورأيت مئات الملايين من ثقافات مختلفة وديانات متعددة وأعراق متباينة ومستويات معيشية متفاوتة يزحفون نحو صناديق الاقتراع في عملية تستغرق ثلاثة أشهر كاملة, وآمنت يومها أن فقراء الهند يمثلون أكبر قاعدة ديمقراطية في العالم.
ثانيا: إن الاسطوانة المشروخة التي تتحدث عن ان الشعب المصري لم يحكم نفسه عبر تاريخه الطويل إلا في منتصف القرن العشرين تقريبا وهو بذلك غير مهيأ للديمقراطية الكاملة بل هو في حاجة اكثر إلي نظام الحاكم الفرد الرشيد أو حتي الدكتاتور المصلح نقول إن هذه الاسطوانة المشروخة قد أساءت إلينا كثيرا, بل عطلت مسيرة الديمقراطية في بلادنا وأصبحت مبررا لكل التجاوزات السياسية أحيانا وتغييب الشرعية الدستورية أحيانا أخري فضلا عن العدوان علي القانون وسيادته, وأنا أظن أن الشعب المصري لديه استعداد كامل كبقية الشعوب لممارسة الديمقراطية الحقيقية وإن كانت تعوز أجياله الجديدة درجة مطلوبة من التربية السياسية قصرت فيها الأحزاب القائمة والتي كان من المفترض أن تكون مدارس لتخريج الكوادر السياسية وتفريخ القيادات الشعبية.
ثالثا: إن جماعة الإخوان المسلمين محظورة ولكن موجودة ـ تحتاج إلي مراجعة أمنية لتاريخها عبر العقود الثمانية الأخيرة, وأن تعلن صراحة إيمانها المطلق بالوطنية المصرية قبل غيرها, وأذكر أشقاءنا فيها بأن محمدا ـ صلي الله عليه وسلم ـ عندما أخرج من مكة عبر في كلمات ذهبية يعرفها الجميع عن مفهوم الوطن والارتباط به, كذلك فإن هذه الجماعة التي تربط السياسة بالدين قد بدأت دعوية إصلاحية كان يجب أن تشتبك مع أخلاقيات المجتمع فقط وفقا لصحيح الدين بدلا من اللهاث في أروقة السياسة والسعي وراء تطلعات الحكم, وعليها أن تتوقف عن استخدام الشعارات الدينية وأن تؤكد التزامها بمبدأ أن الأمة مصدر السلطات وتسلم ايضا بتداول السلطة ودوران النخبة,
وأن تتوقف عن التفكير الأحادي النظرة الذي يتحدث بالمطلق ولايعترف بما هو نسبي, ولا يمكن أن يتحمل الشعب المصري مايجري كل انتخابات نيابية حيث تطفو الاتهامات المتبادلة بين الحزب الحاكم والجماعة المحظورة ـ شكليا والموجودة فعليا ـ فالحزب يتهمها بأنها تقوم بعملية تزوير معنوي لإرادة الناس عن طريق إقحام الدين في العمل السياسي والجماعة بدورها تتهم الحزب علي الجانب الآخر بالتزوير المادي نتيجة حيازته لمواقع السلطة وسيطرته علي مصادر صنع القرار.. لقد آن الأوان لوقفة موضوعية بين نظام الحكم والجماعة من أجل مستقبل الديمقراطية الحقيقية في مصر, وأنا أكرر هنا مرة أخري أن كل القوي السياسية الموجودة في الشارع المصري هي صاحبةحق في التعبير عن إرادة الشعب بكل ألوانه وأطيافه مهما كان اختلافنا عليها واتفاقنا معها شريطة أن تقف هذه القوي علي أرضية وطنية ثابتة تعلي من مفهوم المواطنة وتجعل له الأولوية علي ماعداه.
رابعا: ليس صحيحا أن الانتخابات تفرز أفضل العناصر ـ في مصر أوفي غيرها ـ فالشعبية وحدها لاتعبر عن درجة الصلاحية ولاتترجم الإمكانات الحقيقية لمن يكون نائبا عن الشعب وتلك إشكالية كبري حيث تلعب بعض العوامل دورها المعتاد في المساس بسلامة جوهر العملية الانتخابية, وأنا أذكر هنا صراحة بعض العوامل ومنها الدين والمال والنفوذ العائلي بل والسطوة الفردية التي قد تصل إلي حد البلطجة وهذه أمراض مزمنة يجب ان يتعافي منها المجتمع السياسي المصري حتي تتمكن العناصر الصالحة من الطفو علي السطح وبهذه المناسبة فإنني أظن أن إجراء الانتخابات وفقا لنظام القائمة النسبية كان يمكن أن يقاوم بعض التحديات الناجمة عن العوامل السلبية التي ذكرناها.
خامسا: إن مصر بلد قديم و شعب عريق كان يقدم دائما مشروع الدولة النموذج لأشقائه في المنطقة العربية بل وغيرهم من دول العالم الثالث, ولقد حان الوقت الذي يجب أن تستعيد فيه مصر عافيتها القومية ودورها الريادي, فمصر ليست بلدا عاديا ولكنها دولة استثنائية بحكم المكان والمكانة وبمنطق التاريخ والحضارة وإذا كان دورها في القرنين التاسع عشر والعشرين قد ارتبط بحملها لشعلة التنوير ورسالة التعليم ونشر الثقافة فإن الوقت قد حان لكي تتقدم مصر بأدوات جديدة الي المنطقة كلها تتصدرها بالممارسة السياسية ومناخ الحريات وسيادة القانون ورعاية حقوق الإنسان وتطوير التعليم والبحث العلمي فتلك هي مفردات العصر وأدوات النهضة بعد أن لعبت مصر دورا تحريريا وتنمويا ـ عبر قرنين كاملين ـ علي المستويين العربي والإفريقي.
هذا طواف سريع حول قضية مهمة يتوقف عليها مستقبل هذا الوطن, وأعني بها قضية المشاركة السياسية ودورها في رسم خارطة الطريق وتحديد مسار المستقبل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/9/22/OPIN3.HTM