يثور لغط شديد علي الساحة السياسية وأروقة الحياة العامة في مصر خلال السنوات الأخيرة, وهو حديث يدور في مجمله حول ما يمكن تسميته خارطة الطريق المصرية, فلمصر الآن رئيس لايزال في كامل لياقته, أطال الله في عمره, ومع ذلك فالشعوب بطبيعتها لا تتوقف عن الثرثرة في الحديث حول المستقبل لأنها لا تراه بعيدا, فهو قادم لكي يكون حاضر الأبناء والأحفاد, وأنا أزعم أن الرئيس مبارك قد خدم وطنه قرابة ستين عاما كاملة, فتاريخه العسكري هو الذي قدمه لموقعه السياسي, وقد بذل الرجل جهدا مضنيا في كل المواقع التي تبوأها من عام1949 وحتي الآن, وحيث ينص الدستور المصري علي جواز تعيين نائب للرئيس دون أن يلزمه بذلك, فإن الرئيس مبارك قد اختار أن يترك ذلك الموقع شاغرا, وهو يستند في هذا إلي منطق خاص يري أن تعيين نائب للرئيس هو اختيار مسبق من الرئيس الحالي للرئيس المقبل, فلقد كان السادات نائبا للرئيس عبدالناصر فأصبح من بعده رئيسا, وكذلك كان مبارك نائبا للسادات فتولي بعده الرئاسة, وهذا الاشتباك بين منصب نائب الرئيس والرئيس المقبل قد أضر بالموقعين معا, لكن لو أننا نجحنا بشكل مقنن أن نفصل بين منصبي نائب الرئيس والرئيس المقبل,
ونفض الاشتباك بينهما لدي العقلية المصرية لكان الوضع أفضل بالتأكيد, لكن الذي حدث هو أن الأمرين اختلطا معا وأصبح اختيار نائب الرئيس قيدا علي إرادة الجماهير, ومصادرة علي المطلوب, ويهمني هنا أن أؤكد بعض المعاني والانطباعات التي استقرت في يقيني وأنا أتابع ما يكتب حول هذا الأمر من كل الاتجاهات والقوي السياسية, وسوف أتطرق بالضرورة إلي ما يدور في الشارع السياسي, كما أنني لن أتجاهل المسكوت عنه في هذا الشأن, ولست أبغي من طرح هذا الموضوع إلا تعزيز روح الشفافية في مجتمع ينبغي أن يحرص عليها, وأن يتمسك بها, وبالتالي فلست جزءا من أجندة سياسية معينة, كما أنني لا أسعي لتأييد توجه بذاته, ولا أروج إلا لمصلحة مصر, ولن يحكمني في السطور المقبلة إلا ما يصدر عن ضمير وطني خالص:
أولا: إن منصب رئيس الدولة في مصر حيث النظام السياسي المختلط الذي يجمع بعض الخصائص المشتركة من النظامين الرئاسي والبرلماني معا هو منصب صعب أقرب إلي التكليف منه إلي التشريف, إذ إن المشكلات اليومية لثمانين مليون مواطن هي بالضرورة مسئولية الجالس علي مقعد ولي الأمر, وحكم مصر ليس نزهة سهلة, ولا متعة دائمة, فمصر بلد قديم وكبير, عريق ومتحضر, لكنه يضم شعبا عاني عبر التاريخ من أزمة الثقة المفقودة مع حكامه حتي نطق الفلاح الفصيح في العصر الفرعوني, وضج المشايخ في العصر المملوكي, وظلت الشكوي سمة مصرية دائمة, ومعاناة إنسانية قد لا تنتهي أبدا.
ثانيا: إن مصر بلد النيل والأهرام, بلد الأزهر الشريف, والكنيسة القبطية, بلد أحمس, ورمسيس الثاني, بلد محمد علي, وجمال عبدالناصر, والسادات, ومبارك, بلد أم كلثوم, وعبدالوهاب, وطه حسين, وسلامة موسي, وتوفيق الحكيم, ونجيب محفوظ. إنها مصر التي صدت الطغاة, وقهرت الغزاة, وقدمت للإنسانية والعالمين العربي والإسلامي أسماء من أمثال الإمام محمد عبده, وبطرس بطرس غالي, وأحمد زويل, ومحمد البرادعي, لذلك فإن القياس علي مقومات هذا البلد ينبغي أن ينسحب بالضرورة علي حجم رئيسها, وإمكاناته, وقدراته, وصفاته.
ثالثا: إن الذي يأتي بالرئيس المصري هو الشعب المصري: المدينة والقرية, والأحياء الراقية والعشوائيات, المسجد والكنيسة, الأحزاب والنقابات, الجامعات التي هي عقل الوطن ورصيده, إنها أيضا القوات المسلحة درع الوطن وضميره, لذلك فإن اختيار الرئيس هو إجراء دستوري يمضي فيه البرلمان الذي يقترب عمره في مصر من المائة وخمسين عاما, وهو تعبير عن إرادة شعبية جماعية تأتي بالحاكم عن اقتناع, وتدعمه عن استحقاق, وتمضي وراءه عن جدارة.
رابعا: لقد أفزعني كثيرا ذلك الكم من الأسماء المطروحة التي يجري ترشيحها لذلك المنصب الخطير بلا مقومات واضحة, أو استحقاقات تاريخية حتي ظهر هواة الشهرة, وتحركت النمور الورقية من مختلف الاتجاهات بلا استثناء, بينما مصر أكبر من ذلك وأعرق وأعظم, وكأن اختيار الرئيس المصري ليست له قواعده وضوابطه, أو أنها لا تخرج عن مجرد اختيار وزير أو مسئول كبير, بينما الأمر يختلف تماما, فهناك شروط واجبة, ومسئوليات جسام لأن رئيس الجمهورية في مصر هو أيضا رئيس السلطة التنفيذية بحكم الدستور, وهو الحكم بين السلطات في الوقت نفسه, كما أنه هو القائد الأعلي للقوات المسلحة التي قال عنها وزير الدفاع الأمريكي في حديث علني عام2008: إنها أكبر جيوش المنطقة وأقدمها وأكثرها مهنية.
خامسا: إن الرئيس المصري لابد أن يكون مدعما من قوة اجتماعية قادرة علي مساندته عند اللزوم علي نحو يتيح له حرية التحرك, والقدرة علي اتخاذ القرار المناسب, فالرئاسة إذا كانت متعة في التشريفات والحفلات فإنها أزمة كبري أمام الكوارث والتحديات, وعند النكسات والنكبات, فالحياة عند القمة مأساة إنسانية من نوع خاص تجعل الحاكم يقف فوق جبل الجليد البارد وهو لا يملك الأدوات المباشرة لتحريك القوي السياسية, والقيام بالتوازنات المطلوبة. إن رئاسة الدولة كياسة وحصافة وحكمة وصبر وإحساس بالآخرين, وتفاعل مع قضايا الوطن وشئونه, واهتمام دائم بمشكلاته وهمومه, لذلك فإنني أعجب لمن يقدم نفسه أو يرشحه مريدوه لهذا المنصب الخطير في جسارة أحيانا, وسذاجة أحيانا أخري, وكأنما يقدمه رفاقه إلي وظيفة حكومية عادية حتي ولو كانت رئاسة مجلس الوزراء, لأن موقع رئاسة الدولة في مصر شيء آخر يحتاج إلي مواصفات خاصة, وصفات نادرة, ومقومات فريدة.
سادسا: إن هناك وهما لدي بعض العناصر التي تفتقد الخبرة السياسية الحقيقية, والدراية الواعية بطبيعة الشعب المصري فيصدرون أسماء بذاتها, وشخصيات بعينها متصورين أن المباركة الخارجية هي جواز السفر لدخول قصر الرئاسة, وأنا أقول لهؤلاء وأولئك: إن اختيار الرئيس المصري هو قرار شعبي يعبر عن إرادة الأمة, ولا يفرض عليها, كما لا يأتيها من فراغ. إن اختيار الرئيس هو قرار وطني داخلي, وليس فرضا خارجيا علي شعب واجه عبر تاريخه الطويل كل أنواع الضغوط الخارجية بفطنة ويقظة مشهودين.
سابعا: قلت من قبل, ولعشرات المرات, إن قيادة الأوطان تقتضي الوقوف علي أرض وطنية صلبة, وإنها تختلف عن إدارة المؤسسات, أو تكوين الشركات. إنها بعد إنساني عميق, ورؤية شاملة لجميع مناحي الحياة, لذلك فهي تحتاج إلي لياقة ذهنية عالية, وسلامة بدنية كاملة. إنها تحتاج إلي العقل المرتب, والذهن المجدول, والفكر الواضح, والنظرة البعيدة القادرة علي استشراف المستقبل في كل الظروف, وهناك عشرات النماذج الناجحة في مجالات تخصصاتها, لكنها لا تصلح لمقعد الرئاسة لأن ذلك التكليف الشعبي الواسع يأتي لمن عرف معاناة الناس, وعرك مشكلاتهم, وخبر أحوالهم, وأدرك معني العدالة الاجتماعية, وتأمل في صمت معاناة الطبقات الكادحة في مجتمع مازال الفقر ينهش في أوصاله.
هذه قراءة موضوعية لملف شائك لا يبدو الحديث فيه متاحا إلا في همس الصالونات, أو صفحات الصحف المستقلة أو المعارضة, والعالم من حولنا يتحدث عن مصر أم الدنيا المنجبة المعطاءة التي لا يتوقف مددها لمن حولها فهي طاقة الضوء, وشعلة التنوير, وقائدة المسيرة, هكذا كانت منذ الأزل, وهكذا سوف تكون بإذن الله إلي الأبد.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/8/25/OPIN1.HTM