لخصت الأيام القليلة الماضية مأساة الأمة التي ننتمي إليها ونتعايش مع نكباتها ونكساتها منذ فجر التاريخ, فالفاجعة المفزعة التي تمثلت في المذبحة الوحشية التي مارستها آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية ضد أبناء غزة, والتي خلفت الدمار والأشلاء والجراح وحركت الأمة علي نحو غير مسبوق, إن هذه الأمور كلها قد أدت إلي حالة من خلط الأوراق وتداخل مفاهيم المقاومة مع اتهامات المؤامرة, إلي جانب عملية تحريض ضد مصر لا يقبلها عقل إنساني ولا يرضي بها ضمير قومي.. ودعنا في هذه اللحظات الصعبة وأمام هذه الأحداث الأليمة نرصد عددا من الملاحظات التي تبدو أساسية أمام الفاجعة التي أدمت القلوب ونكأت الجراح:
أولا: إن إسرائيل كيان استثنائي يقوم علي العدوان والتوسع والاستيطان ويمارس كل أنواع إرهاب الدولة, وهذا ليس جديدا عليها, وأن كانت شراستها تتزايد وجرائمها تتصاعد في ظل بيئة دولية حاضنة تعطيها الحماية التي تجعلها تضرب بكل قرارات الشرعية الدولية عرض الحائط وتجهض كل محاولات الإدانة.
ثانيا: إن الكفاح المسلح ضد الاحتلال حق مشروع لا يجادل فيه أحد, ولكن المقاومة الوطنية هي عملية نضال عاقلة لها حساباتها ومحاذيرها فهي ليست عملية انتحار جماعي تتم بغير إدراك للمتغيرات الدولية والظروف الإقليمية والملابسات المحلية حتي أن المقاومة الفرنسية ضد النازي في الحرب العالمية الثانية خفضت في بعض المراحل من سقف عملياتها حفاظا علي سلامة مدينة النور باريس في مواجهة غارات هتلر وعدوانه, فالأصل إذن في المقاومة أنها عملية محسوبة قد لا يكون من المجدي فيها من الناحية العملية إطلاق صواريخ تقتل بضعة أفراد ثم يدفع المدنيون في الأرض المحتلة ثمنا لذلك مئات الشهداء الأبرياء, ولست أعني بذلك أن أصحاب القضية يبخلون بدمائهم أو يضنون بتضحياتهم, ولكن الأمر يخضع في النهاية لموازنة نضالية لا تقف عند حدود الانفعال والعواطف والدعايات.
ثالثا: إن التلويح أحيانا والتلميح أحيانا أخري من بعض المصادر عن ضلوع مصر- كنانة الله في أرضه ـ في جرائم إسرائيل بغزة هو افتئات علي الحقيقة وعدوان علي الواقع واستفزاز مباشر للروح المصرية صاحبة أغلي التضحيات من أجل القضية الفلسطينية وقائدة الأمة في الصراع العربي الإسرائيلي ـ حربا وسلما ـ فإذا كان مصر قد حذرت إسرائيل من مغبة التصعيد في غزة أثناء زيارة وزيرة خارجية الدولة العبرية للقاهرة فأين تأتي شبهة التواطؤ؟! إنه افتراء غير معقول أو مقبول, ثم إن مصر في النهاية بلد راسخ الوجدان لا يسمح تاريخه بالتآمر واللعب في الكواليس والاتفاق في الظلام.
رابعا: إن حديث زعيم حزب الله الشيخ حسن نصر الله ـ الذي يبدو جزءا من أجندة قوي إقليمية معروفة ـ يتضمن تحريضا مباشرا ومحاولة تفتقر الي الحد الأدني من فهم طبيعة الشعب المصري صاحب التضحيات الذي صنع الانتصارات واستوعب النكسات من أجل أمته وقضاياها العادلة, كما أن الإشارة إلي مؤسسات تعتبر رمزا للكبرياء المصرية وفي مقدمتها القوات المسلحة الباسلة هو عمل غير مسبوق ويؤدي إلي نتائج عكسية ويدفع نحو تماسك الجبهة المصرية في هذه الظروف شديدة التعقيد بالغة الصعوبة, فمصر بلد كبير لا تجوز فيه عمليات التحريض والتدخل في كيانه المستقر المستمر عبر آلاف السنين.
خامسا: إن قصة معبر رفح معروفة للجميع, ولكن من يريد أن يغالط بشأنها فإنه يفعل ذلك, فهي نتائج لانقلاب حركة حماس في منتصف يونيو2007, فلم تكن مصر أبدا هي السبب فيما آل إليه وضع المعبر, ولكن الخلاف الفلسطيني الفلسطيني هو المسئول الأول عن مشكلة ذلك المعبر الذي فتحته مصر ـ علي مسئوليتها ـ أمام كل الحالات الإنسانية بدءا من وصول المرضي الفلسطينيين إلي دخول المواد الغذائية في اتجاه القطاع مرورا بحجيج بيت الله الحرام, ولكن البعض ينسي أو يتناسي السبب الذي أدي إلي مشكلة المعبر وانهيار الاتفاق المنظم للعبور منه ـ ومصر ليست طرفا فيه علي كل حال ـ لكي يتوجه باللوم إلي مصر والتحريض عليها وتشويه صورتها والتشويش علي الحقيقة عن عمد أو غفلة.
سادسا: إنني أقول صراحة أنه لا يمكن اختزال النضال الفلسطيني في حركة حماس وحدها, وهي تلك التي باركنا نضالها في مرحلة قيادة شهدائها البارزين بدءا من الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وغيرهما من قوافل النضال الفلسطيني, ولكننا فوجئنا بها في السنوات الأخيرة وقد تفتحت شهيتها للسلطة وأصبحت طرفا في الصراع الفلسطيني الداخلي أكثر منها حركة مقاومة ضد المحتل الغاصب, بل إنها فازت في انتخابات تم إجراؤها وفقا لانفاق أوسلو الذي لا تقبله الحركة ولا تعترف بوجوده فدخلت اللعبة السياسية من النافذة بدلا من أن تدخل ساحة النضال من الأبواب!
سابعا: إن الذين يصبون جام غضبهم علي مصر واهمون مغرضون يستسهلون الإلقاء باللائمة علي الدولة العربية الكبري صاحبة التضحيات التاريخية المشهودة, فالكل يحاول أن يغسل يديه من جريمة غزة بتوجيه الانتقادات إلي مصر صاحبة الدور الرئيسي في التوفيق بين الأطراف الفلسطينية وتسوية الصراع العربي الإسرائيلي بدلا من أن يوجهوا سهام غضبهم إلي الكيان المعتدي المدعوم بشكل مطلق من القوة الأعظم في عالمنا المعاصر.
ثامنا: إن المسئولية تقع بالدرجة الأولي علي التشرذم الفلسطيني والانقسام العربي وليس علي مصر التي خاضت أربع حروب مع إسرائيل, بالإضافة إلي حرب الاستنزاف الباسلة التي تتوج تاريخ العسكرية المصرية والشعب الذي أنجبها في وقت واحد, ونسي هؤلاء أو تناسوا أن مصر لديها من مشكلات ثمانين مليون مصري ما يكفيها ويزيد, ولكن مسئوليتها القومية وحسها العروبي ونبضها الإنساني هي التي تقودها في مواجهة الأزمات والخطوب والمحن.
تاسعا: إن أمن مصر القومي خط أحمر لا يزايد عليه أحد, وعلي الذين لا يدركون الحقيقة أن يعلموا أن الأطماع في ذلك الكيان المصري الضخم الرابض في قلب الأمة العربية لم ولن تتوقف, وذلك قدر مصر منذ فجر التاريخ بحكم موقعها الجغرافي ودورها التاريخي ورصيدها البشري, فليرفع الجميع يده عن البلد الذي صنع الحضارات واحتضن الثقافات وعلم الدنيا منذ طفولتها الأولي.
عاشرا: إن طاقة الحزن والغضب المتولدة من جريمة إسرائيل ضد أشقائنا في غزة يجب أن تتحول إلي درس يدفع الفلسطينيين نحو الوحدة الوطنية ونبذ الفرقة والالتفاف حول الغايات الأساسية للنضال الفلسطيني من أجل المصلحة العليا واحتراما لدماء الشهداء الذين تساقطوا عبر العقود الثمانية الأخيرة.
هذه قراءتنا للموقف العصيب علي الساحة الفلسطينية والمشهد العربي المتأزم في ذات الوقت.. إن مصر العروبة والإسلام, إن مصر القومية والضمير, إن مصر التضحيات الغالية والتاريخ الواضح تقول للجميع أنها علي عهدها, قلعة النضال الواعي, وركيزة الدور الدولي والإقليمي الذي يدرك أبعاد ما يجري حوله وما يحاك ضده; إنها في النهاية مصر كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصم الله ظهره.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/12/30/OPIN1.HTM