تجدد اللقاء بين الزمان والإنسان علي مقربة من وزارة جديدة تحمل اسم' التضامن الاجتماعي' فتطلع الزمان إلي الإنسان في هدوء وبادره بقوله( إن العدالة الاجتماعية هي قضية القضايا في هذا العصر, وهي أم المسائل لهذا الوطن, وأنتم تتوهمون أن ذلك المصطلح هو إرث' للعصر الناصري'وحده فارتبطت الحملة السياسية والثقافية والاقتصادية ضد تلك الحقبة بإسقاط مفهوم العدل الاجتماعي من حساباتكم, متصورين أنه قرين التجربة الاشتراكية وهذا وهم آخر, فالعدالة الاجتماعية لا ترتبط بأيدلوجية معينة ولكنها تعبير عن مفهوم إنساني موجود في النظام الرأسمالي مثلما هو في النظام الاشتراكي,
فالعدالة الاجتماعية غاية سامية وهدف نبيل لكل النظم الديمقراطية بغير استثناء, وأنتم هنا في مصر مغرمون باستهلاك الشعارات وتفريغها من مضمونها الحقيقي وتربطون ربطا تحكميا بين بعض الشعارات التي ترتبط بحركة التطور وارتقاء المجتمعات وبين عهود محددة ونظم بعينها وأفكار بذاتها, لذلك فأنني أريدكم هنا في مصر ألا تتصوروا أن العدالة الاجتماعية لابد أن تختفي في ظل الاقتصاد الحر وإعمال آليات السوق والانتقال إلي النظام الرأسمالي بديلا للاقتصاد المخطط وملكية الدولة لأدوات الإنتاج, ويجب أن تدركوا أن سياسة الانفتاح الاقتصادي
قد تحولت لديكم إلي سياسة انفتاح استهلاكي وها أنتم الآن تواجهون الأمر بشكل يجري تسطيحه بدرجة كبيرة والشعار مرفوع من حين لآخر كنوع من إزاحة الشعور بالذنب أو غسل اليدين من جرائم الفساد والاحتكار والتفاوت الطبقي الفاضح والفقر المتزايد وتراجع الخدمات في بعض القطاعات بشكل ملحوظ فضلا عن زحف الثروة علي السلطة في تحالف غير مقدس يسيء إلي الوطن ويهدد مستقبله), عندئذ تطلع الإنسان إلي الزمان شاردا, وقال( إنك قد ذهبت بعيدا فالأمور ليست بهذا السوء, وكل داء وله دواء والمشكلات التي نعانيها قابلة للعلاج
ونحن نطالب دائما بضرب الاحتكار وحماية المنافسة ورعاية الطبقات الفقيرة كما أن رئيس الدولة لم يتوقف يوما عن الحديث حول البعد الاجتماعي وأهميته في حياتنا, أنه نفسه الرئيس الذي فاوض' صندوق النقد الدولي' و'البنك الدولي' لعدة سنوات رافضا الخضوع لمطالبهما التي كان يمكن أن تمس محدودي الدخل), وهنا قاطعه الزمان قائلا( كيف تقول ذلك؟ وانتم تتحايلون الآن للخلاص من عبء الدعم الذي لا يذهب إلي مستحقيه, ولكنه يذهب إلي مستغليه! فالدعم يتجه إلي طبقات لا تحتاج
وتتساوي في استخدامه مع المحرومين والمقهورين والفقراء بينما الأولي بالرعاية هي تلك الطبقات الأكثر عددا والأشد فقرا, وأنا أريد أن أقول لكم هنا في مصر أن لديكم تجمعات عشوائية ومواقع تنذر بالخطر ويبدو بعضها وكأنه قنابل موقوتة ولا بد لكم أن تعوا ذلك جيدا قبل فوات الأوان وأنا أريد أن أذكركم بالمقولة الحصيفة لسيد الشهداء الإمام' علي'' كرم الله وجهه' عندما قال' لو كان الفقر رجلا لقتلته', وعلي الأغنياء في هذا الوطن والقادرين من ابنائه أن يدركوا أن الاستمتاع بالثروة يستلزم تأمينها برضا الطبقات الأخري وضمان حد أدني من المعيشة المقبولة آدميا للآخرين فالوطن للجميع ونحن نريد مجتمعا يسعد فيه الكل بغير استثناء حتي الأغنياء علي حد التعبير الشهير لرواد' الحركة الفابية' في الفكر الاشتراكي البريطاني, وأنا أريد أن أقول لك أنه إذا كانت الديمقراطية هي تعبير سياسي عن مفهوم المشاركة الجماعية فإن' العدالة الاجتماعية' هي جوهر قضية الديمقراطية, حتي إن البعض أطلق عليها تعبير' الديمقراطية الاقتصادية', كذلك فإن قضايا حقوق الإنسان التي تعتبر' موضة' العصر الحديث ترتبط هي الأخري بقضية' العدالة الاجتماعية',
كذلك فإن الشرائع السماوية والنواميس الطبيعية والقوانين الوضعية تعزز كلها مفهوم العدالة بكل أبعادها خصوصا البعد الاجتماعي لها), وهنا تطلع الإنسان بمزيد من الترقب متفائلا( قل لنا أيها الزمان بحكمة العصور وتعاقب العهود ما هو السبيل لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية هل هو مجرد التكافل من جانب من يملكون تجاه من لا يملكون؟ أو بمعني آخر هل هي مجرد العدالة بمفهومها' الطوبائي' وروحها الرومانسية؟ أم هناك ما يمكن الآخذ به والتعويل عليه لإيجاد ضمانات علمية لقضية العدالة الاجتماعية
بحيث تخرج من مجرد نوع من التضامن الاجتماعي العام إلي صياغة نظرية تكفل تحقيق ما نسعي للوصول إليه), وهنا خرج الزمان عن طبيعته وقاطع الإنسان قائلا) إن المسألة ليست معادلة كيميائية أو حسبة رياضية ولكنها ـ قبل ذلك كله ـ هي مجموعة من الإجراءات الاقتصادية التي تكفل الحد الأدني للمعيشة المقبولة والارتقاء بها بشكل مضطرد مع توزيع الموارد بشكل يتسم بالمصداقية والشفافية إلي جانب اختفاء أسباب الاستغلال ومظاهر الفساد وتكريس سيادة القانون واحترام مقدرات الوطن
كما أن فك الاشتباك بين السلطة والثروة هو مقدمة لازمة للخروج من دائرة الاستغلال الاقتصادي ومثلث الاستبداد السياسي, لأن الترابط بين هذه الثنائيات أمر لا يخفي عليكم, وقد يكون الأمر متعلقا بسوء الإدارة إلي جانب عدم القدرة علي اختيار القيادات التي تستطيع أن تنتشل الوطن مما هو فيه), وعند هذه المرحلة تدارك الإنسان بعض ما كان يريد أن يقوله فأضاف( إن هناك ارتباطا وثيقا بين جوانب الحياة المختلفة كما أن نيل الحقوق لم يعد متاحا بسهولة كما كان الأمر من قبل,
لذلك فإن عنصر الإرادة الوطنية هو الحكم الفيصل في تحقيق العدالة الاجتماعية), وهنا انبري الزمان مؤكدا( أن قضية العدالة الاجتماعية هي قضية كل المجتمعات إذ أنها ترتبط بالعملية الاقتصادية الأساسية, إنني لا أخفي وجهي هروبا من سماع حقيقة ما إذا كان التعامل معها هو الذي ينتقل بالمجتمعات إلي وضع أفضل, وأرجو ألا تنزعج أيها الصديق من الطريقة التي نطالبكم باتباعها في مواجهة المستقبل الغامض لكم ولشعوب المنطقة كلها), عندئذ تعانق الصديقان; الزمان والإنسان علي أمل لقاء قادم يقترب من وسط العاصمة المصرية, حيث يطل الاثنان معا علي الحياة اليومية لأكثر من خمسة عشر مليونا في بقعة واحدة هي القاهرة الكبري التي ارتبطت بالتاريخ الطويل والماضي العريق والحاضر المزدحم بالبشر في كل مكان!.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/12/11/WRIT1.HTM