واصل الزمان والإنسان لقاءهما علي مقربة من مبني البرلمان المصري وقررا أن يكون حوارهما هذه المرة شائكا, يدور حول مستقبل السياسة والحكم في مصر, فبادر الزمان الإنسان قائلا: إن ثرثرة الصالونات في أمسيات القاهرة وليالي الإسكندرية وأحاديث الأقاليم أصبحت كلها تدور حول المستقبل, وتتحدث عن مفردات مثل' التوريث' و'نائب الرئيس' و'التغيرات في الهيكل السياسي للدولة', والكل قلق علي عصر ما بعد مبارك ـ أمد الله في عمره ضمانا للاستقرار القومي ومبعثا للطمأنينة الوطنية ـ ولا شك أن مستقبل مصر لا يهم شعبها وحده,
ولكنه يهم أيضا أمتها العربية, بل الشرق الأوسط كله, وقديما قال الإنجليز' إذا عطست مصر أصيب الشرق الأوسط بنزلة برد', لذلك فإن السؤال المطروح في كل المناقشات حول المستقبل المصري, إنما يدور حول ما يمكن أن تأتي به السنوات المقبلة, وأنا أيها الإنسان بحكم خبرتي التاريخية أقول لمعارضي عصر مبارك وسنوات حكمه الطويلة تذكروا الحكمة التي تقول' رب يوم بكيت منه فلما مضي بكيت عليه', وأنا لا أدعوكم إلي التشاؤم ولكن أطالبكم بالموضوعية واليقظة وحيازة الرؤية الصائبة,
فمصر ليست بلدا صغيرا فقد تفاعلت الجغرافيا مع التاريخ لكي يصنعا لها دوراي بغير حدود, وهنا رد عليه الإنسان قائلا: إن الصورة ليست بهذا القدر من التشاؤم بل إن لدينا من الأسباب ما يدعو إلي غير ذلك, فرئيس الدولة يتمتع بكامل مقوماته وإمكاناته ولياقته الصحية والفكرية, كما أن في مصر مؤسسات ذات تقاليد راسخة بدءا من هذا البرلمان الذي نقف أمامه كمؤسسة تشريعية وصولاي إلي' دار القضاء العالي' التي تقع غير بعيدة عنا, حيث السلطة القضائية,
وأمامنا مباشرة المقر الرسمي للحكومة المصرية علاوة أن مصر تملك أكثر جيوش المنطقة مهنية واحترافا علي حد تعبير وزير الدفاع الأمريكي الحالي في حديث تليفزيوني أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة, وإذا تحدثنا عن مسألة عدم تعيين نائب لرئيس الجمهورية فإننا نري لذلك تفسيرا قد يكون تعبيرا عن مدرسة مختلفة في الديمقراطية, فقد اختار' عبد الناصر'' السادات' نائبا له فأصبح رئيسا بعده, واختار' السادات'' مبارك' نائبا له فأصبح رئيسا بعده, لذلك استقر في العقل المصري ارتباط وثيق بين منصب نائب الرئيس وشخص الرئيس المقبل
وهو ارتباط غير مريح, يستقطب مراكز القوي نحو المستقبل علي حساب الحاضر, علاوة علي أن وجود إجراءات دستورية محددة لترشيح الرئيس المقبل عند خلو منصب الرئيس تعطي ضمانا نسبيا للمستقبل, كما أن الأحزاب السياسية, وفي مقدمتها حزب الأغلبية, قادرة علي إفراز قيادات متجددة وكوادر سياسية فاعلة, تملأ أي فراغ عند اللزوم, واضعة في الاعتبار أن القوات المسلحة المصرية هي في النهاية حامية الشرعية وسياج الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد, عندئذ نظر الزمان إلي الإنسان في ثقة واطمئنان
وقال له لا اختلف كثيرا عما قلت ولا أناقش طويلا فيما ذكرت, ولكن تبقي مخاوف اللحظات الصعبة والصراعات المحتملة في بلد يباهي دائما باستقراره, ويعتز بانصهار فئات شعبه, لذلك فإنني لا أخفي عليك أن ترتيب البيت من الداخل قد يعفي أصحابه مغبة الفوضي في الظروف الحرجة, ومتاعب الأيام الصعبة ومخاطر التطورات المفاجئة, وإذا كنتم تتطلعون إلي رئيس مدني للبلاد يملك القدرة ويحوز الثقة ويتمتع بقدر من الشعبية فهذا حقكم, وليس المهم في هذه الحالة من هو اسما ولا كيف ينتمي عائليا,
وهل هو نتاج ثقافة مدنية بحتة أم أن فيها خبرة عسكرية سابقة, فهذه كلها أمور ليست هي الفيصل في الرئيس المقبل, ولكن المهم هو كيفية وصوله إلي سدة الرئاسة وسلامة العملية الديمقراطية. التي تأتي به إلي المنصب الأول في الدولة, فالنقلة النوعية الحقيقية ستكون في نزاهة الأسلوب, وسلامة الإجراءات التي يتم بها اختيار رئيس مصر, وليس المهم إلي من ينتمي وكيف يكون. فحدق الإنسان متأملا قبة البرلمان المصري وقال: إن لدينا' برلمانا' منذ عام1866 مع محاولات دستورية متوالية منذ منتصف القرن التاسع عشر تتوجت بصدور دستور1923,
أما الأحزاب السياسية فيصل عمر معظمها إلي ما يزيد علي مائة عام, فلقد شهد عام1907 ميلاد عدد من الأحزاب التي أسهمت ومازالت تسهم حاليا في الحياة السياسية المصرية, والناس يتحدثون في بلادكم عن' سيناريوهات' ثلاثة أولها هو أن يكتسح مرشح الحزب الوطني الانتخابات القادمة عندما يتقدم بمرشحه للرئاسة في الوقت المناسب, و'السيناريو الثاني' هو أن تمارس القوات المسلحة دورا مرحليا في حماية الشرعية الدستورية, ولتأكيد نزاهة انتخابات تالية,
أما' السيناريو الثالث' فهو المأساة بعينها عندما تشيع الفوضي ويخرج سكان المدن والقري والعشوائيات تحت وطأة ضغط ظروف الحياة في محاولات عبثية لا تليق بشخصية مصر, ونحن نريد أن نتجنب هذا السيناريو غير المعتاد في تاريخنا الحديث, والذي لن يكون فيه رابح أو خاسر بل سوف تدفع كل القوي السياسية فاتورة غالية له, وأنا أظن أن المزاج المصري أقرب إلي' السيناريو الأول' في اختيار رئيس للبلاد يكون واجهه مقبولة للوطن وشخصية تتمتع بالحد الأدني من القبول العام, لدي الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية كافة, وهنا ابتسم الإنسان واستطرد مخاطبا الزمان قائلا:إنك بحكمتك الطويلة وخبرتك العريضة قد فتحت دائما أمامنا أبواب الأمل, وأحييت فينا روح الثقة, وأشعرتنا بأن الفراغ لا يحدث في مصر, فالدنيا تدور حولنا بطريقتها والزمان محكوم بقوانين ثابتة ونظم قائمة تتصل بالعلاقة بين السلطات مع سلامة الإجراءات, ووضوح السياسات, وهنا تصافح الزمان والإنسان علي أمل لقاء مقبل سوف يكون هذه المرة بالقرب من مبني' وزارة التضامن الاجتماعي' لأن الحديث سوف يتطرق ـ في حوار العصر ـ إلي قضية حاكمة في مستقبل الوطن المصري ونعني بها قضية' العدالة الاجتماعية'.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/11/27/WRIT1.HTM