تطلع الإنسان المصري إلي الزمان العصري مبديا تفاؤله حول( ما يردده الأشقاء في المنطقة والأصدقاء في العالم عن تراجع الدور الإقليمي لمصر وكيف أنهم يعلقون علي ذلك ـ بفرض صحته ـ معظم مشكلات المنطقة وإخفاقات الأمة وانتكاسات العرب, وهل يا سيدي الزمان نعتبر الدور الإقليمي فريضة جغرافية وتاريخية لابد من الالتزام بها ولا فكاك منها؟), عندئذ نظر إليه الزمان وقال( إن القضية بالنسبة لكم هي أنكم تحملون إرث العصر الناصري بمفهوم سلبي حيث يرتبط الدور الإقليمي بالنسبة لكم' بحرب اليمن' أحيانا ونشاط الأجهزة الاستخبارية المصرية في المنطقة أحيانا أخري,
وتتصورون أن النكسة كانت ابنة شرعية للانتشار المصري في المنطقة وامتداد الدور الإقليمي والقومي' للكنانة' والأمر في ظني غير ذلك فإن لديكم تجربتين كبيرتين للخروج عن خريطة الوطن في مصر الحديثة وأعني بهما تجربة' محمد علي' التوسعية وتجربة' عبد الناصر' القومية, فالأولي أنهتها اتفاقية' لندن1840' والثانية انتكست بهزيمة' يونيو( حزيران)1967', فمصر عرفت ظاهرة تاريخية متكررة وهي أنه كلما خرجت عن حدودها التي رسمتها لها القوي الكبري وتجاوزت الخطوط الحمراء فإنها تتعرض بالضرورة لضربات خارجية تعوق حركتها وتوقف امتدادها),
عندئذ ظهرت ملامح الاكتئاب علي وجه الإنسان المصري وقال( إن معني ذلك أن نظل دائما تحت الضغوط الدولية والقيود الإقليمية ولا نستطيع المضي في رسم' خارطة طريق' للمستقبل مادام دورنا الإقليمي مرفوضا وسياستنا القومية مرصودة, ويبقي السؤال أيها الزمان: كيف يكون ذلك صحيحا وقد ارتبط اسم مصر بمعارك' حطين'' وعين جالوت'' والسادس من أكتوبر( تشرين)1973' خصوصا أننا نؤمن بأن التاريخ لا تصنعه المصادفة, بل هو ابن التجربة وامتدادها الطبيعي؟),
هنا اتخذ الزمان موقع الناصح الأمين لكي يقول للإنسان( إنكم تتصورون أحيانا في مصر أن الدور الإقليمي هو نوع من الميول الاستعراضية أو الرغبة في الاستحواذ علي المنطقة, وهذا غير صحيح وينطلق من تفكير غير سليم لأن الدور الإقليمي معطاة حضارية لعبت فيها الجغرافيا والتاريخ دورا أساسيا حتي جاء ـ من تقاطع محوري الزمان والمكان ـ ما نعيشه واقعا معاصرا, ولا يجوز أن تتصوروا أبدا أن الدور الإقليمي هو نوع من الرفاهية التي تضحي فيها الشعوب من أجل مجد الحكام, فتلك نظرة قاصرة تعبر عن تفكير معكوس,
فالدور الإقليمي إذا جري توظيفه بطريقة سليمة فإنه يتحول إلي نوع من التعزيز القوي للكيان الذي ينطلق منه ويعطي للسياسة الخارجية أبعادها الحقيقية وآفاقها المنتظرة, وأحيانا تتحدثون كثيرا عن أن الدور الإقليمي يحتاج إلي نفقات إضافية تمثل عبئا علي الخزانة العامة للدولة, فالدور الإقليمي قد يحتاج إلي الدخول في صراعات وتحالفات ومعاهدات بل وحروب ويرتب التزامات متتالية علي من يتحمله, فله أدوات ثقافية ونفقات اقتصادية وأعباء سياسية, بل وأحيانا عسكرية ولكن عائده أكبر بكثير من كل ذلك,
ويجب ألا تنسوا أيها المصريون أن تراجع دوركم نسبيا قد أدي إلي الاستهانة بالجاليات المصرية في الدول الأخري أحيانا بل وتجاهل القرار المصري أحيانا أخري), عندئذ رد عليه الإنسان متفائلا( كيف تقول ذلك ومصر لها وجود فاعل في مشكلات المنطقة وقضاياها حاليا, إنها في' السودان' وفي' العراق' وقبلهما في' فلسطين' وبعدهما في' لبنان' فكيف تقول ذلك ومصر لم تغب عن أمتها يوما ولم تتقاعس في التزاماتها أبدا, بل إنني أظن أن كل ما يتردد عن تراجع الدور المصري هو أقرب إلي الوهم منه إلي الحقيقة,
وجوهر المسألة كلها أن الظروف قد تغيرت فقد تراجعت حركة التحرر الوطني, كما أن الحرب الباردة قد انتهت وأصبحت الدنيا تتحرك في إطار مختلف, وأضحت قضية الدور الإقليمي قضية ثانوية لبعض الدول كما انكفأ البعض الآخر علي مشكلاته الداخلية وتصور وهما أن العزلة هي طريق البناء وسبيل التقدم بينما الواقع يؤكد أن الاشتباك مع القوي الإقليمية والدولية هو الذي يصنع المكانة ويحمي المصلحة ويعزز السياسة الخارجية), عندئذ بدا الارتياح علي الزمان وقال( إنني سعيد أنكم قد أدركتم أخيرا أن بلدكم مصر اعتمدت دائما علي نظرية خاصة في العلاقات الدولية مؤداها أنكم تمارسون دورا إقليميا حيويا لتنالوا به مصالح وطنية في مختلف المجالات,
ولعلكم تدركون في النهاية أن الدور الإقليمي ليس منحة ولا تفضلا ولكنه ممارسة سياسية وخبرة إنسانية وتراكم تاريخي), عندئذ قال له الإنسان( إن الأمور بدأت تتضح وأصبح في مقدورنا الآن أن نتحدث عن الدور الإقليمي دون تشنجات أو حساسيات فذلك قدرنا في حيازة دور تتغير أدواته وتتعدد أساليبه ولكنه لا ينتهي أبدا, فمصر ليست دولة صغيرة كما أن تأثيرها دائما ربما يزيد علي حجمها بل وإمكاناتها لأنها مستودع الأفكار الكبري والمبادرات المهمة فمنها خرج' الإسلام السياسي' الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ومنها أيضا ـ وقبل ذلك ومنذ عقود كثيرة ـ خرجت موجات التنوير لتملأ المنطقة فكرا وثقافة وعلما, إنها مصر التي تحملت مسئولية الدفاع عن دول المنطقة ولم تتردد يوما في اقتحام المخاطر من أجل أمن وسلامة شعوبها, وهي مصر' الأزهر الشريف'' والكنيسة القبطية'' والأهرام'' والنيل'' وطه حسين'' والعقاد'' وأحمد شوقي'' وسلامة موسي'' وأم كلثوم'' وعبد الوهاب' وغيرهم من كوكبة التنوير في مجالات العلوم والفنون والآداب, لذلك فإن الحديث عن انتهاء هذا الدور هو ضرب من الخيال ووهم لا يعبر عن الواقع بأي حال), عند هذه النقطة اتفق الزمان
والإنسان معا علي موعد يناقشان فيه مستقبل السياسة والحكم فوق' أرض الكنانة' ـ في هذه الظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد ـ دعنا إذن لنمشي علي الأشواك ونتحدث عن' سيناريوهات' المستقبل!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/11/13/WRIT1.HTM