التقي الزمان والانسان في موعدهما المحدد علي ضفاف البحيرة الكبيرة التي يطلق عليها البعض اسم بحيرة السد العالي برغم أن اسمها الأصلي هو بحيرة ناصر امتدادا للتقليد الفرعوني برفع أسماء الحكام عن المنشآت والمشروعات بعد رحيلهم, انه تقليد يمتد من عصر حتشبسوت حتي ثورة يوليو1952 باجراءاتها المعروفة
ولم يفلت من هذا التقليد إلا القليل ونأمل ان يستمر اسم أكاديمية السادات وأن لايتغير اسم أكاديمية مبارك ايضا في يوم من الأيام, فالعبث بالتاريخ عادة مصرية قبيحة تنال من أسماء الشوارع والميادين والمؤسسات, لذلك نظر الزمان الي الأفق البعيد علي امتداد البحيرة الواسعة وقال للانسان( ان أهم شئ تفتقدونه في بلدكم هو الموضوعية وضرورة البعد عن النفاق وتلوين الأمور بنظرة شخصية تسئ اليكم في النهاية ولعلكم تتحملون مسئولية تاريخية نتيجة الأخطاء التي ارتكبتموها في تعاملكم مع السودان ـ امتداد العمق الاستراتيجي جنوبا
ـ فأمنكم القومي يبدأ من منابع النيل ولكنكم انشغلتم بالشمال والشرق والغرب وغاب عن أجندتكم الجنوب الذي لايظهر فيها إلا في مناسبات موسمية وكانت النتيجة فقدان الأرضية المصرية تقريبا داخل السودان, ولعل مباراة كرة القدم الأخيرة وحجم العداء الدفين لدي الأجيال الجديدة من شباب السودان تجاه اشقائهم في شمال الوادي يتجاوز بكثير مجرد مباراة رياضية, ليعكس حجم الفراغ الذي تركتموه في الجنوب فملأته قوي أخري شحنت النفوس وغسلت العقول وعبأت المشاعر ضدكم). عندئذ قاطعه الانسان قائلا:( سيدي الزمان, انها الحساسيات التاريخية الموروثة من سنوات الحكم الثنائي وهي نتاج لسياسة بريطانيا التي قامت علي مبدأ فرق تسد, وحملت المصريين تاريخيا مسئولية الاساءة الي اشقائهم التوأم برغم ان هناك ومضات مشرفة بين البلدين في القرن التاسع عشر
ويكفي ان نتذكر ان المهدي الكبير استاء لاغتيال جوردون باشا لأنه كان يريد ان يقايض به لدي الانجليز بالزعيم الوطني المصري أحمد عرابي في منفاه هكذا كانت الروح الحقيقية المصرية ـ السودانية, ولكن الدنيا تغيرت وعوامل خارجية تدخلت وهبت علي الجنوب رياح تكاد تمزق السودان وتقسم وحدته وتضرب التعددية التي اتسم بها وتحيله الي دويلات صغيرة, فرد الزمان قائلا( هل تظن ان ثورة يوليو1952) والصراع بين ناصر ونجيب واستبدال مصر القومية العربية بشعار وحدة وادي النيل, هل هذه العوامل هي المسئولة عما جري بين البلدين التوأم أم انها مجرد حساسيات تاريخية كما تقول أيها الانسان
ان المسألة في نظري أعمق وأخطر من ذلك فقد تمكنت عوامل كثيرة من خلق هوة واسعة بين الشعبين, فالأجيال الجديدة في شمال الوادي وجنوبه لاعلاقة لها بذلك التاريخ الطويل ولا يعرف كل جانب مايربطه بالجانب الآخر, والسودانيون لايتذكرون للمصريين الأن الا خطايا الحكم الثنائي وضرب جزيرة أبا ودعم القاهرة للنظم القمعية في الخرطوم!, وهنا استشاط الانسان غضبا وقال( هذا ظلم بين, فمصر ليس لديها خيار غير دعم الشرعية سواء كانت هي جعفر نميري أو عمر البشير, أو غيرهما وإلا اتهمونا بالتدخل في شئونهم والعبث باستقرارهم أما عن الخلاف الحدودي المصطنع الذي يتحدثون عنه أحيانا فهو محض افتراء, وليست المسألة هي مثلث شلاتين وحلايب
ولكن المهم ان نبقي دائما حبايب! فهو نزاع مختلق تستخدمه الانظمة كلما تدهورت العلاقات بين مصر والسودان مثلما فعل عبد الله خليل وإبراهيم عبود وعمر البشير حتي وصل السودانيون بأشقائهم المصريين الي أروقة مجلس الأمن في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, فابتسم الزمان ساخرا وقال للانسان المصري( كيف تفسر التحول الذي طرأ علي توجهات الزعيم الاتحادي إسماعيل الأزهري بعد ثورتكم المصرية عندما تصور السودانيون ان أزمة مارس1954 كانت موجهة ضد الرجل الطيب محمد نجيب ذي الجذور السودانية وكيف انتقل الأزهري من معسكر الاتحاد الي معسكر المطالبة بانفصال السودان واستقلاله بعد ان كان جزءا لايتجزأ من التاج المصري لعشرات السنين ولاتعلقوا الأمر علي شماعة التنافس بين الختمية والانصار
بين جماعة الميرغني وجماعة المهدي, فلحسن الحظ اقترب أخيرا زعيم المهدية الروحي والسياسي السيد الصادق المهدي من القاهرة بعد قيام ثورة الانقاذ حيث توطدت علاقاته بالسياسيين والاعلاميين والمفكرين والمثقفين في مصر علي نحو غير مسبوق فزالت الحساسيات وانقشعت الغيوم مع ذلك الفصيل السوداني التاريخي, كذلك فان علاقتكم بالجنوب وقياداته طيبة في مجملها, ولقد كان القائد الراحل جون جارانج محبا لمصر ولايحمل إرثا معاديا لها, وبرغم كل هذه الكروت في أيديكم فإنكم لم تتمكنوا حتي الأن من صياغة اطار مستمر ومستقر لعلاقات سليمة بين القطرين الشقيقين فلا انتم تعالجون حساسيات الماضي ولاترسمون ملامح المستقبل, فكانت النتيجة هي تلك الهوة الواسعة بين الشعبين برغم مظاهر التقارب الشكلي بين الحكومتين
وقد جاءت مأساة دارفور وهي واحدة من أخبث المشكلات المعاصرة ـ لتضع علي كاهلكم مسئوليات جديدة لا أظن انكم متحمسون للخوض فيها, وعند هذا المستوي من الحديث مط الانسان شفتيه واعترض قائلا: ان في تحليلك أيها الزمان قدرا من التجني الذي لامبرر له فأنت تلقي علينا باللائمة دائما وتنسي ان النظام الحالي في الخرطوم المدعوم من الجبهة الاسلامية يشاركنا المسئولية فيما وصلت اليه الأوضاع حيث أصبحت فترات الصفاء أشبه ماتكون بالمواسم الدورية مثل الأمطار الموسمية علي هضبة الحبشة التي يجري معها نيل الحياة, ولابد أيها الزمان أنك سوف تحملني أيضا تبعة الحساسيات النوبية الجديدة التي تذكيها قوي أجنبية ومؤتمرات مشبوهة تسعي لضرب وحدة الوطن المصري في كل اتجاه ولذلك حديث آخر في مناسبة قادمة, عندئذ غاب الزمان مع نظرة تأمل شاردة وأمسك عن الحديث علي أمل لقاء جديد مع الانسان المصري, بعد أن فرغا من أيام رمضان التي يصوم فيها الناس عن اللغو والثرثرة والطعام أيضا!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/10/16/WRIT1.HTM